«آيديولوجيا الهيمنة» ليست خاصية غربية محضة، ولكن سيطرة الغرب الاقتصادية والسياسية والعسكرية الشاملة التي عمَّرت لزمن طويل، وأصبحت أكثر تعقيداً وشملت جميع مناحي الحياة الفكرية والعلمية والثقافية، جعلت «الهيمنة» تصبح مرادفة لعلاقة الغرب بالآخر ومع العالم.
ولفهم آيديولوجيا الهيمنة عند الغرب، التي بالمناسبة بدأت تتآكل في السنوات الأخيرة، لا بد أن نُعرِّج على ظروف وملابسات الريادة الغربية التي عَمَّرت لقرون، منذ عصر النهضة الأوروبية، وما سمي قسْراً «الاكتشافات» حتى بداية القرن الواحد والعشرين.
تبقى السمة الغالبة لهذه السيطرة هي العنف، ما بين هذه الدول نفسها (الحروب الأوروبية الطويلة الأمد والحروب العالمية)، وضد دول الجنوب (العنف الاستعماري) والتدخلات العسكرية ذات الطابع الإمبريالي من طرف الولايات المتحدة وحلفائها بعد الحرب العالمية الثانية إلى حد الآن. وهذا العنف يأتي على خلفية أسطورة تكوِّنَت منذ عصر النهضة، مفادها أن مهمة الإنسان «الأبيض» في غالب الأحيان هي السيطرة على الطبيعة وتطويعها. وبالتالي، فإن الاكتشافات الجغرافية جاءت لتنفيذ هذه الرؤيا التي ترى في الطبيعة «عدواً» يجب قهره، أو «وحشاً» وجب تطويعه، عكس الثقافات الأفريقية والآسيوية والأوسيانية وثقافة الشعوب الأصلية في الأميركيتين، التي ترى في الطبيعة أصلاً، ومسكناً وموطناً ومصدر عيش وتعايش.
لقد وطّدت أسطورة ضرورة سيطرة الإنسان على الطبيعة ما يمكن تسميته «العنف ضد الطبيعة»، التي تكوَّنت إبان عصر النهضة الأوروبية لمرحلة المغامرة الاستعمارية التي تم بموجبها استغلال خيرات دول الجنوب واستعباد أهلها والتأسيس لتجارة رقيق مُربحةٍ دامت قروناً من الزمن وما رافق ذلك من إبادة وقتل في الأميركيتين الشمالية والجنوبية والكونغو وأستراليا والهند والهند الصينية وجنوب أفريقيا وكينيا وناميبيا والجزائر ومدغشقر وغيرها. وتبقى المفارقة هي أن العنف الاستعماري رافقته نظرة استعلائية تقول بضرورة «تحضير» دول الجنوب في إطار مهمة صعبة وثقيلة، وجد «الرجل الأبيض» نفسه مُجْبراً على تحمُّلِها، كما قال روديارد كيبلينغ.
حتى العِلْمُ في نسخته الغربية تطور منذ عصر النهضة ليصير وسيلة للهيمنة وليس للتعايش كما نجده في نظريات العلوم عند العرب والفرس والصينيين والهنود والمايا والماوري والشعوب الأصلية في الأميركيتين وأفريقيا وآسيا.
إن المقاربة العلمية لدى فرانسيس بيكون هي في أصلها مقاربة للهيمنة على الطبيعة وعلى الإنسان عبر الملاحظة والطريقة الاستقرائية. الداروينيون الاجتماعيون أعطوا الشرعية للإمبريالية على أساس أن «القوى الإمبريالية هي في طبيعتها متفوقة وهيمنتها على الأمم الأخرى هي في صالح التطور الإنساني بشكل عام» (كيف يتم استعمال الداروينية الاجتماعية لشرعنة الإمبريالية والعنصرية والسياسات الاجتماعية والاقتصادية المحافظة؟ إنسايكلوبيديا.كوم).
هذه الخلفية الآيديولوجية والتاريخية لما يسميه البعض «العجرفة الغربية» ما زالت، حسب كثير في دول الجنوب، تؤثر على علاقة الغرب بالدول الأخرى، صاعدة كانت أم في طريق النمو. هكذا يتم بناء قلاعٍ حول أوروبا وأميركا وأستراليا لمنع وصول المهاجرين. وفي الوقت نفسه، يتم تشجيع هجرة الأدمغة إلى الجامعات والمستشفيات والقطاع العام والخاص في أوروبا وأميركا الشمالية. وتتم الاستعانة بالخبرات «الجنوبية»، في الوقت الذي تتأصل فيه ثقافة الميز العنصري ويتقوَّى عود الحركات الشعبوية والقومية المناهضة لكل ما هو غير «أبيض» في أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا.
من جانب آخر، تهيمن البنوك والمؤسسات المالية والشركات الغربية الكبرى على صنع القرار الاقتصادي عبر العالم. وفي الوقت نفسه، يتم وضع شروط مجحفة لولوج الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل في الأسواق المالية الدولية. ويتم فرض الدولار عملة مرجعية في المعاملات التجارية، علماً بأن هذا يخدم مصلحة أميركا وأوروبا والشركات الغربية بالدرجة الأولى، ويجعل الدول الأخرى حبيسة نظام تجاري ومصرفي مجحف وغير عادل، وليس في متناول الجميع.
هذا في الوقت الذي يخوِّل الغرب لنفسه الحق في فرض أنظمته الثقافية والسياسية والاقتصادية على دول الجنوب وإضفاء الصبغة الكونية على القيم الملتصقة بهذه الأنظمة، دون أي اعتبار للخصوصيات الثقافية والتاريخية والسياسية لهذه الدول. صحيح أن هامش الحرية والديمقراطية في الغرب ما فتئ يتسع، لكن هذا يجب ألا يكون ذريعة لكي تصبح منظومة القيم الغربية وحدها ذات طابع كوني. فهذا ينم عن تقوقع ثقافي وإثني صارخ على الذات.
إن القيم والمفاهيم الأساسية التي تقول بها الثقافات الأخرى، مثل الإحسان في الإسلام، والعشق عند المتصوفة، و«الضارما» (السلوك القويم) و«الكارما» (بقايا الحياة السابقة) عند الهندوس، و«رجوع الحياة» عند البوذيين، والوووي (أي التناسق المتكامل مع الطاو، أي مبدأ التوازن الأساسي في الحياة) عند الطاويين، والطريق ذات الأبعاد الثلاثة (الفكرة الحسنة والكلمة الحسنة والعمل الحسن)، أو طريق آشا عند الزرادشيين، والمقدس - المؤنث في الفلسفات الأفريقية، و«المانا» (السلطة المقدسة) عند الماوري، و«التزاعاك» أي كيف يحدد النشاط الإنساني الزمن عند المايا، وغيرها من القيم «الأخرى» المنتشرة عبر المعمورة، هي قيم منافية لروح الهيمنة والقوة والسلطة واستعمال العِلْم لأغراض تسلطية، التي يقول بها الغرب. ولهذا فإدراك الغرب لهذه المعاني وتفاعله معها يبقى سطحياً، إثنوغرافياً، وغرائبياً ليس إلا.
لقد رفضت دول الجنوب العنف المركب للغرب منذ ظهور حركات التحرر الوطني في أواسط القرن العشرين، لكن الاستقلال بالنسبة لكثير من مفكري دول الجنوب كرَّس بشكل أكبر التبعية للغرب نتيجة تواطؤ النخب المحلية ودخولها في لعبة الحرب الباردة وسقوطها في فخ الإملاءات الغربية حول الاختيارات الاقتصادية الواجب اتباعها.
الكثير يتحدث عن الصحوة الحالية لنفض غبار التبعية للغرب لدى كثير من الشعوب والأمم، لكن ما يجب على دول «الجنوب» فعله هو خلق فضاءات جديدة وتكتلات بديلة والتفكير في نموذج اقتصادي جديد يُمكِّنُها من الابتعاد عن سيطرة الشركات والبنوك الغربية الكبرى على الاقتصاد، وتلَمُّس مقاربة جديدة للواقع والطبيعة والموارد والكون، لا تستخدم العلم من أجل الهيمنة وتبديد الموارد، لكن تستلهم الدروس من الثقافات المحلية والأنظمة الثقافية والدينية والاقتصادية للمجموعات الأصلية والهامشية، في إطار تداخل بين العلم والمعرفة المحلية لخلق تجانس وتعايش مستدام وعادل مع الطبيعة ومع الآخر.