سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

طوباوية «أبو القنبلة الذرية»

استمع إلى المقالة

عندما سُئل روبرت أوبنهايمر، في مطلع خمسينات القرن الماضي؛ إنْ كان يعي البُعد الأخلاقي الخطير لاكتشافاته، بعد أن أدَّت قنبلتا هيروشيما ونغازاكي الذريتان، في أغسطس (آب) 1945، إلى وفاة 220 ألف ضحية، نصفهم ماتوا على الفور، قال: «واجب العالم أن يبحث عن الحقيقة. أما استخدامها فهو عمل السياسيين». إجابة صادمة ممن عُرف باسم «أبو القنبلة الذرية». لكنَّ الرجل البارد ذا الصوت الأجش والصدر المحتقن بالتبغ، لم يعش هانئاً، وبذل جهده للحد من الانحرافات التي نتجت عن استغلال أعماله البحثية، فاتُّهم بالجاسوسية لروسيا، وبقي تحت أعين «سي آي إيه»، ونُظر إليه كخائن، ولم يُبرَّأ إلا منذ سنوات، في عهد الرئيس أوباما.

الرجل واحد من مئات العلماء الذين يعملون «من أجل المعرفة والحقيقة»، كما قال، لكن أبحاثهم تذهب للخراب. عمل أوبنهايمر مديراً لمشروع «مانهاتن» للبحث والتطوير لإنتاج أول أسلحة نووية أميركية، لمواجهة هتلر، ووضع حد للنازية، التي كانت تهدد العالم الديمقراطي بعودة الفاشية. أوبنهايمر ومئات العلماء، كانوا يظنون أنهم يحمون الكوكب من الديكتاتورية، ويعملون في سباق مع الزمن، ظناً منهم بأنهم يسيرون بالبشرية إلى خلاصها.

مواقف تبدو سذاجة، من علماء نبغوا في اختصاصاتهم. أوبنهايمر تحديداً وُصف بـ«العبقري». كان أول دكتور في الفيزياء في أميركا جاء إلى بلاده، بعد تخصصه في بريطانيا وألمانيا، بعلوم كانت تحتاج إليها، لتصبح أول قوة في العالم.

عند نجاح التجربة الأولى «ترنيتي» حدث أن «بكى البعض، وضحك البعض الآخر، وصمتت الأغلبية. لكن جميع بحاثة المشروع فهموا أن التاريخ قد تغيَّر وإلى الأبد».

فجيعة هيروشيما ونغازاكي لإيقاف الحرب «كانت مكلفة بالبشر والأرواح أكبر مما تصورنا. الآن صار أسهل علينا أن نقول ذلك، بعد أن شاهدنا ما حصل. أصبحت أنا الموت ومدمّر العالم».

شعر الرجل بأن يديه ملطختان بالدماء، رفض استكمال العمل من أجل القنبلة الهيدروجينية، ولم يرَ خيراً في السير بسباق التسلُّح. أطلق فكرة تبدو اليوم أكثر طوباوية من أي وقت مضى. طالَب بأن يتم التنسيق بين الدول المتنافسة في مجال العلوم والتسلح النووي، لتكمل بعضها بعضاً، وتعمل من أجل الأخوة الإنسانية. أمر لم يُطبَّق جزئياً إلا عند البحث عن طعم لوباء «كوفيد».

بسبب أفكاره المثالية، حامت الشكوك حول شيوعيته، إضافة إلى كون شقيقه قد انتمى إلى الحزب الشيوعي، ولأوبنهايمر صداقات بين أعضاء الحزب.

أفكاره الجريئة الحرة التي صرح بها من دون مواربة... معارضته، وعمله من أجل خلق نقابة عامة تجمع الأكاديميين والعلميين والمهندسين والفنيين، جعلته يُتهم بالتخطيط لتدمير الحكومة الأميركية.

التوتر بين العلماء والسلطات الحاكمة لا يتأتى من إخلاص جهة، وخيانة أخرى، بل من اختلافات جذرية لزاوية الرؤية لكل من الطرفين. جهة تريد المنفعة السريعة المباشرة والضيقة، وأخرى لها نظرة بانورامية على الوجود الإنساني. وحين سُئل عما يجب أن يكون موقف دولة من علمائها؟ قال: «يجب أن تحبهم».

كيف يمكن للدولة أن تحبه، وهو، في عز الحرب الباردة، يطالب بأن يكون البحث العلمي مشرعةً نتائجه للجميع، وأن تُفتح الأقنية بين العلماء ليتبادلوا المعرفة فيما بينهم. «أكره الأسرار»، قال، هو الذي عاش سنوات في لوس ألاموس، المجمع البحثي الذي أقيم خصيصاً لأبحاث القنبلة الذرية، في أجواء غاية في السرية، بحيث حرم عليهم البوح بأدنى المعلومات، وقُسموا إلى مجموعات بحثية، لا صلة بين واحدة وأخرى، كي لا يتمكن جاسوس من اختراقهم.

مات غير نادم على أبحاثه أوبنهايمر. «لو لم أصل إلى هذه النتائج لوصل إليها غيري. مصير الإنسانية محكوم بالمعرفة والعلم، لا خيار آخر لنا». يبقى أن الهامش المتاح هو الحكمة في استخدام النتائج، وتطبيقها لصالح رخاء البشرية لا لتدميرها. لهذا راودته نفسه أن يخرق السرية، أن يتمرد. لكنه لم يفعلها.

كثر هم العلماء الذين ما إن أفلتت أعمالهم من بين أيديهم حتى انقلبت إلى عكس ما كانوا يتمنون. تماماً كما يحدث للكتاب الأدبي، حين يخرج من بين يدي صاحبه، وتدفع به المطبعة إلى الأسواق، يصبح تأويله ملكاً لكل الناس، الأغبياء منهم كما الأذكياء، ويفقد المؤلف سلطته على النصوص وتأويلاتها.

شخصية أوبنهايمر مركّبة، شديدة التعقيد، وسيرته تتمفصل مع صراعات دولية كبرى، لم يكن بارعاً في قراءتها سياسياً، فتلك ليست مهمته، هو الذي آمن بالحوار والديمقراطية حتى خسر الرهان عليهما. «أنا أشرح ما توصلت إليه، أكتب، أحاول أن أوضح أفكاري للناس. أن أشرح لحكومتي... أن أعيد وأكرر وألح، لأنهم لا يسمعون من المرة الأولى». المشكلة هي في غياب الشفافية، والتستر والتكتم وغياب المصارحة مع الشعوب.

تقرأ كلمات أوبنهايمر، تظن أنه يعيش في غير عالمنا. الفيلم الذي يُعرض حالياً سيناريو وإخراج كريستوفر نولان، مقتبس من كتاب «بروميثيوس الأميركي» الذي ألَّفه الكاتبان كاي بيرد ومارتن ج. شيروين. بدأ شيروين العمل على هذه السيرة لأوبنهايمر عام 1980، واستمر 20 سنة، جمع خلالها 50 ألف وثيقة حكومية رفعت عنها السرية، طارد الشهود القادرين على الإدلاء بمعلومات، ضاع في فضاء الوفرة. استعان بالمؤرخ كاي بيرد، وبعد 4 سنوات صدر الكتاب بأكثر من 700 صفحة، ونال جائزة «بوليتزر»، وصار من بين أكثر الكتب مبيعاً، وعاد اسم أوبنهايمر إلى الصدارة.

لو أضفت جهود الكاتبين العظيمين، إلى الورشة السينمائية الضخمة لإنجاز الفيلم، تعرف كم أن العمل احتاج لسنوات من التخمير والتنقية، وأن العلوم والفنون إما أن تكون تراكمية أو لا تكون.

الفيلم يحاول أن يحيط بشخصية هذا الباحث الفذ، والحبائل التي حيكت حوله وأوقعت به، لكن الأهم في سيرة الرجل هي تلك الرومانسية الخطرة التي يعيشها العلماء وهم يجرون أبحاثهم في مختبراتهم وعزلتهم، وتلك الوحشية في المقابل التي تُستغل بها دون رضاهم أو حتى طلب مشورتهم. هذا ما خشي منه د. إيان ويلموتس في جامعة أدنبره، حين قاد فريق استنساخ النعجة دولي، وما يحذر منه علماء الذكاء الاصطناعي، وسنرى نتائجه في المستقبل، حين يُستخدم هذا الاختراع كسلاح قاتل وفتاك، بعد أن يفلت من أيدي الجميع.