رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

الأنباء المقلقة من لبنان: ماذا بعد؟

استمع إلى المقالة

من يتابع الأخبار اللبنانيّة لا يمكن إلا أن يعتريه القلق. هذا البلد الصغير والضعيف والمنشطر على ذاته، يشغل نفسه ويشغل من حوله بصورة مستمرة، ولو أن مستويات الاهتمام العربي والدولي في تراجع مستمر، نتيجة وصول الدول التي لطالما كانت معنيّة بالملف اللبناني إلى قناعات بأن الوضع فيه يُطابق المثل العامي: «فالج لا تعالج»، أي أنه ميؤوس منه.

لم تعد أخبار البلاد تقتصر على الانقسام السياسي والشلل المؤسساتي والدستوري المفتعل، في ظل غياب رئيس للجمهوريّة منذ أشهر طويلة، وعلى ضوء انسداد المنافذ السياسيّة لانتخاب رئيس جديد، وعدم قدرة الحكومة الحالية -كونها حكومة تصريف أعمال- على القيام بالمهام المطلوبة منها بالحد الأدنى.

كما أنها لم تقتصر على أنباء الانهيار الاقتصادي والمالي الذي دخل عامه الثالث، دون أن تلوح في الأفق أي علاجات جديّة في المدى المنظور، وعلى ضوء تردد صندوق النقد الدولي في استكمال مسار التعاون مع لبنان، بعد مرور عام كامل منذ توقيع اتفاقية أوليّة مع لبنان على مستوى الموظفين، والتي لا يبدو أنها سوف تسير إلى الأمام قريباً.

الأخبار شبه اليوميّة عن حالات القتل المتعمّد أو غير المقصود، والانتحار ومحاولاته غير المكتملة في بعض الحالات، والتحرّش الجنسي، والتعرّض للأطفال في الحضانات، وترك عدد من حديثي الولادة والرضَّع على قارعة الطريق أو قرب حاويات النفايات، وسوى ذلك من المشكلات اليومية التي تتصدّر وسائل الإعلام، تعكس جانباً من حالة الانحطاط الأخلاقي التي ترافق حقبة انهيار المجتمعات، بحيث تدفع حالة الترهل العام بعض الناس إلى سلوك طريق الخطأ، والجنوح نحو الممارسات المشينة والمنافية للانتظام العام.

وإذا كانت أنباء التفلُّت الاجتماعي والأخلاقي مثيرة للقلق، لما تحمله من انعكاسات عميقة على تركيبة المجتمع اللبناني وطبيعته وهويته؛ فإنها أيضاً تولد القلق المضاعف عندما تكون ذات أبعاد سياسيّة أو طائفيّة، في بلد لطالما كانت الطائفيّة والمذهبيّة فيه تشكّل عنصراً مؤثراً في الواقع الاجتماعي والأهلي.

من هنا، فإن الأحداث المتفرقة التي يشهدها لبنان تنذر بعواقب وخيمة، ما لم يتم تداركها من قبل الطبقة السياسيّة التي باتت مدعوة أكثر من أي وقت مضى لكي تمارس واجباتها السياسيّة والدستوريّة المنصوص عنها، وتذهب فوراً إلى انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، ومن ثم الانتقال إلى تكليف شخصيّة تحظى بالاحترام لرئاسة الحكومة، وبعدها تأليف حكومة تعمل بشفافيّة لتطبيق برنامج إصلاحي متكامل يخرج البلاد من أزماتها المتفاقمة والمتلاحقة التي تتوالد بصورة يوميّة ومخيفة.

ثمّة من يشبّه المرحلة الراهنة بحقبة ما قبل اندلاع الحرب الأهليّة المشؤومة سنة 1975، التي امتدت لمدة 15 عاماً، ووضعت أوزارها سنة 1990، بعد مبادرات سياسيّة عدّة تكللت بالنجاح، في لحظة دوليّة وإقليميّة معيّنة شهدت تقاطعاً كبيراً أوقع المدفع وأرسى اتفاق الطائف.

كانت الأجواء السياسيّة والأمنيّة أيضاً ملبدة منذ مطلع السبعينات، ولاحقاً انفجرت في عام 1975 لأسباب عدَّة ومتنوعة، ليس المجال لاستذكارها في هذه اللحظة الحرجة إلا من باب التذكير بضرورة تلافي تكرارها، مهما كانت الأثمان المطلوبة؛ لأنها تبقى أرخص من أكلاف الحرب.

إن حجم الانقسام الحاد بين اللبنانيين، وتمسك بعض الأطراف السياسيّة بمواقفها بشكل عنيد، وعدم قبولها تغييرها أو تكييفها بما يتلاءم مع المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة العليا، من شأنه أن يفاقم التوتر القائم، ويدفعه نحو اتجاهات ومسارات جديدة قد تخرج عن السيطرة نتيجة ارتفاع منسوب الكراهية والخلافات العميقة على الثوابت الوطنيّة.

الوضع الحالي القائم على ظواهر غير طبيعيّة في حياة الدول والمجتمعات، وعدم قدرة الدولة المركزيّة على أن تكون هي الطرف الأقوى بين الأطراف اللبنانيّة، من شأنه أن يعرّض البلاد لمخاطر كبرى على أكثر من مستوى، وأن يدخل لبنان في نفق مظلم لا تُعرف نهايته.

أسوأ ما في الأزمة اللبنانيّة أنها موجودة بالإرادة والفعل لبعض القابضين على زمام الأمور في لبنان، بينما هي قابلة للحل بالترفع عن المصالح الفئويّة الخاصة، وهو ما لا ترغب فيه تلك الأطراف. الشعب اللبناني ذاق الأمرّين، وآن الأوان أن يتذوق طعم الاستقرار.