على الصعيد الميداني، تتفاوت الجماعات المتطرفة في الميل نحو القيام بعمليات خطيرة بحسب مبانيها الفكرية. المسألة هنا ليست في المقارنة بين المذاهب، أو الخلوص لكون بعضها يشجع على التطرف أكثر من البقية، ولكنها تتلخص في آلية التحفيز (mechanism of motivation) المتوفرة لدى قيادات المتطرفين والتي تعطيهم مساحة لإعطاء الأوامر بتنفيذ عمليات فيها ضرر على الأرواح والممتلكات. ففي بعض الدوائر تشغل العقيدة مساحة واسعة من الاهتمام مقارنة بالفقه، بينما في دوائر أخرى نجد الفقه يشغل مساحة أكبر من العقيدة في فكرة الجماعة. وعليه، فإنه ثمة حاجة ملحّة لفهم عقلية كل جماعة متطرفة من أجل يتم التعامل معها بناء على الأدوات التي تحفز أنشطتها المتطرفة.
إن الشأن الديني عند الأفراد والمجتمعات ينقسم إلى مكوّنين رئيسيين:
العقيدة: تتعلق بالعلاقة الإيمانية الروحية بين العبد وربه؛ ويستتبع ذلك الأفكار والشعارات الكبيرة التي تربط الفرد بهويته الدينية؛ هذا هو المكون النظري (Theoretical Component).
الفقه: يتعلق بالممارسات العملية في دائرة الأحكام الخمسة (واجب، محرم، مستحب، مكروه، مباح)، وينبني عليه تصنيف الشخص اجتماعياً في كونه متديناً أو غير متدين. هذا هو المكون الإجرائي العملي (Practical Component).
وبين الفقه والعقيدة تحضر «قصص السلف الصالح» (الصحابة والتابعين عند السنة، والأئمة وأصحابهم عند الشيعة) التي تشكّل رافداً للذاكرة الطوباوية للجماعة ومن خلالها يتم إحراز النصر المؤزر الذي يثبت حقّانية ذلك السلف، وفي حال الهزيمة، فإن المصير الذي سيواجه المتطرف يمكن أن يتم إسقاطه على إحدى قصص السلف الذين صبروا في سبيل الدين.
بالنسبة للجماعات المتطرفة، فإنها تتحرك من خلال المكوّن العقدي الذي يحدد دوائر الولاء والبراء ويبقي فكرة الانتماء للجماعة محفزا رئيسيا لفكرة التضحية من أجل الجماعة ونصرة الدين، التي يكافأ عليها الفرد بدخول الجنة. وعادة يتم الاستشهاد بنصوص عامة معزولة عن سياقها الذي وردت فيه. بالمقابل، فإن الجماعات المتطرفة لا تستدعي المكون الفقهي في تعبئتها لأفرادها، إلا من أجل إبراز شواهد على فسق الآخر، من خلال البحث في نقاط عدم التزام العدو المستهدف بعضَ تفاصيل الممارسات اليومية مثل: التعامل مع البنوك الروبية، حلق اللحية، عدم الالتزام بالحجاب... إلخ.
كما هو معلوم، فإنَّ تنفيذ عملية إرهابية فعلٌ سلوكي يحتاج إلى رأي فقهي يندرج تحت أحد الأحكام الخمسة (واجب، محرم، مستحب، مكروه، مباح). فالذي يأمر بتنفيذ عملية ما، إنما يقوم بإصدار فتوى فقهية تقول إن قتل فردٍ أو مجموعة من الناس أمر واجب (وعلى الأقل مستحب أو مباح).
يتضح أن المكون العقدي يُستخدم في التعبئة (mobilization) ويستهدف جميع أفراد الجماعة المتطرفة، بينما يُستخدم المكون الفقهي عند التجهيز لعملية إرهابية محددة، ويكون المستهدف هم الأفراد الموكل إليهم تنفيذ العملية. في هذه الحالة، فإن النقاش بين الأفراد والقادة يكون محدوداً، وذلك لأن المكون العقدي يأخذ وضع البدهيات المحسومة. فمن ذا الذي سيرفض أفكاراً مثل: العزة للإسلام، تولي المسلمين، التبرؤ من أعداء الإسلام، إقامة شرع الله... إلخ؟! هذا على المستوى العقدي.
ميدانياً، تتم إحاطة العملية بالسرية، ويجتمع بعض القادة مع الأفراد الموكل إليهم تنفيذ العملية ليس فقط لشرح الآليات الميدانية، بل لإضفاء الشرعية الفقهية على العملية الإرهابية. يتم ذلك عبر عمليات استدلالية تحتوي على كثير من المغالطات ليستنتج المتطرف أن الإرهاب خدمة للدين. على سبيل المثال: عندما يتم التخطيط لاستهداف منشأة مثل سفارة أجنبية، يكون المبرر الفقهي: الكفار يتم تمكينهم في بلاد المسلمين بأن يتآمروا على المسلمين في بلادهم، كما أن هؤلاء الكفار يمارسون أعمالهم الكفرية في مقر سفارتهم أو إقامتهم في بلاد المسلمين. وعليه، ومن باب إنكار المنكر وإرهاب أعداء الله، تكون هذه العملية لبث الرعب في قلوب الكفار وردعهم عن المنكر الذي يقومون به. وكذلك يتم تبرير قتل العناصر الأمنية التي تحمي المقرات الدبلوماسية - وهم مواطنون مسلمون - بأنهم بحراستهم لمثل هذه المقرات إنما يتولون الكفار دون المسلمين، ويستشهدون بالآيات القرآنية المبتورة عن سياقها، متناسين النصوص التي تتوعد من يؤذي المسالمين بغض النظر عن دينهم، ومن يقتل المعاهدين.
ركزت معظم الحوارات مع المتطرفين على الجانب العقدي، ما فتح باب الجدال بين المتطرف والطرف الذي يقوم بعملية المناصحة. فالمتطرف يستطيع استدعاء العناوين العريضة التي إن رفضها الشخص الذي يناصحه فسيكون خارجاً عن الملة، ويزيد ذلك عندما يدعم المتطرف موقفه بقصص تاريخية ثابتة.
الخطاب العقدي العام يفترض أن يكون مبسطاً ويرد على الشبهات، ولكن ذلك غير كافٍ، لأن الشرعنة الفقهية تكون في الغرف المغلقة وتزرّق لرؤوس الأفراد الذين ينفذون مثل تلك العمليات. لذلك يتوجب قبل مناصحة المتطرف أن تتم دراسة تاريخه الشخصي وقياس مدى التزامه الديني قبل تورطه مع الجماعة المتطرفة. يتضمن ذلك مناقشته في التزامه على المستوى الشخصي (تربية الذقن وعدم أكل الحرام... إلخ) وكيف أنها أمور تدل على خشيته من الحساب في الآخرة، فكيف لا يتثبت في إراقة الدماء، ويعزز ذلك بأدلة شرعية واضحة مثل: «مَن قتل مُعاهداً لم يرح رائحة الجنة». تأتي الخطوة التالية بأن يتم تفنيد القصص التاريخية التي يستشهد بها المتطرف بكونه قد أخرجها من سياقها، وكيف أن استحضار التاريخ وترتيب فعل سلوكي عليه يحتاجان إلى فتوى شرعية صريحة يتبناها ولي أمر شرعي.
إن عملية استحضار القصص التاريخية لدى المتطرفين - بغض النظر عن مذاهبهم - تفترض وجود معسكر للمؤمنين ومعسكر للفسقة أو الكفار. لذلك، فإنه عند النقاش معهم يفترض توضيح أنهم يمارسون «إسقاطاً» للقصص التاريخية وليس «تطبيقاً» لقواعد شرعية. لذلك يجب إحداث التنافر المعرفي (cognitive dissonance) في عقل المتطرف، ما يسهل عملية تقبله للنقاش من أجل التوصل لإقناعه بخطأ توجهاته ويقطع عليه طريق التمثيل والمسايرة في سبيل إخلاء السبيل. أي أنه يجب إشغال ذهن المتطرف بكون فكره الذي يضحي من أجله متناقضا وغير مضمون العواقب الأخروية.