لم تكن السعودية لترغب أن تؤول الأوضاع في التجاوزات القطرية إلى هذا المستوى من الصلَف السياسي، وتجاهل كل التحذيرات من دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، بأن تداعيات الانشقاق عن الصف الخليجي والإمعان في ارتكاب الازدواجية السياسية لم يعد مقبولاً، ولم يكن كذلك، إلا أن إعلان الرياض كان بمثابة نقطة تحول سياسية جديدة في السياق الإقليمي لا يمكن معها تحمّل تلك الازدواجية أو قبولها، لا من السعودية أو باقي دول الخليج، ولا حتى في السياق العربي والإسلامي والدولي الذي يحشد لأول مرة كإعلان لـ«ربيع اعتدال» جديد ينقض ما سبق من ربيع تقويض استقرار الدول، وربيع صعود الميليشيات الذي أحدث تصدعات إقليمية ساهمت في صعود تدخلات نظام الملالي بطهران بشكل غير مسبوق، حتى تم استهداف خاصرة الخليج عبر اليمن، واستفحال إرهاب «داعش» في مقابل تمكين الأشقاء في قطر لهذا التمدد عبر اللعب على تناقضات سياسية خطرة ساهمت في احتضان المعارضات السياسية ورعايتها، من مرجعيات ورموز الإسلام السياسي الذين لم يكتفوا بدور المعارضة الصامتة المهاجرة، وإنما حولوا دولة قطر الشقيقة إلى مجرد منبر إعلامي لاستهداف الجميع شرقاً وغرباً، مدفوعين بقاعدة إعلامية وأدوات قومجية وشخصيات ظل ساهمت في إحداث جيوب داخلية في كل دول الخليج، ترفع شعار الممانعة ومناكفة الخطوط العريضة لسياسات دولها، في مشهد من الفوضى انتقلت لاحقاً إلى منصات الإعلام الإنترنتي، لتساهم في خلق خطاب عدائي كان من شأنه تحشيد كثير من الشباب ضد استقرار دولها، وبالتالي نمو خلايا «داعش» من جهة، وتصاعد خطاب جديد انقلابي ضد استقرار دول الخليج يدين بولاءات عابرة لحدود الدولة، ومنتجة لخطاب عدائي ضد سياسات الخليج، في محاولتها الحثيثة لترميم خرائب الربيع العربي. ومن هنا، أصبح من السهل جداً استخدام هذه الجيوب السياسية المعارضة في الحديث عن الشأن المصري والليبي والتركي، عبر رؤية مفارقة ومباينة لسياسة بلدانها.
خطيئة قطر السياسية بالدرجة الأولى لم تكن في الألعاب الإعلامية الخطرة، التي برعت الجزيرة وعدد كبير من المنصات الإعلامية التابعة للسياسة القطرية الإعلامية المنفصلة عن التزامها السياسي مع دول الخليج، فالجميع يعلم أن «الجزيرة» ذاتها خسرت الكثير منذ لحظة فقدانها للبوصلة مع انهيار الربيع العربي، وسقوط الإخوان وجماعات الإسلام السياسي، خطيئتها تمثلت في محاولة تجاوز فشل «الجزيرة» إلى تدشين خطابات ظل جديدة داخل دول الخليج، ومحاولة الاضطلاع بدور إقليمي منشق عن الخط العام لدول الخليج، سواء في مسألة الخطر الإيراني، أو التدخلات السيادية في الشأن المصري والليبي، والعلاقة مع حماس والإخوان على حساب القضية الفلسطينية ذاتها، وصولاً إلى الانقسامات الخطرة في أهم ملف يهم السعودية، وهو الحرب في اليمن، عبر التعامل مع حزب الإصلاح على طريقة البديل الوحيد، والدفع بانحيازاتها السياسية في خيارات الحرب، في ظل رغبة السعودية ودول الخليج في إنهاء حالة الردع للتمرد الحوثي، والمسارعة في إنهاء حالة الصراع في اليمن، وعودة الشرعية والتفرغ لإعادة الإعمار لإنهاء الثغرة المقلقة التي تحاول إيران النفاذ منها، والتأثير على خط الملاحة العالمي عبر إيجاد موطئ قدم في مضيق باب المندب.
ميزان القوى منذ انعقاد قمة الرياض تغير إلى غير رجعة، دون إدراك واعٍ من القيادة القطرية التي لم تقرأ الوقائع الجديدة ما بعد مشاركة ترمب في قمة الرياض، وتصريحاته التي تصبُّ في صالح معسكر السعودية ودول الخليج أمام حالة الارتباك الإقليمي، كما أن تداعيات الأوضاع في سوريا والعراق، وحتى في تركيا، وتمدد «داعش» وملف الإرهاب، وإعادة فتح ملفات الإسلام السياسي في أوروبا والولايات المتحدة ألقت بظلالها على حجم المسؤولية الكبيرة التي تعيشها دول المنطقة المستقرة، وعلى رأسها السعودية، وعودتها إلى جهات إقليمية فاعلة ومؤثرة بعد الإدارة الأميركية الجديدة، والتحولات في ملف الإرهاب الذي يضرب أوروبا. ومن هنا، نفهم تصريح الرئيس الأميركي المباشر: «لا يمكن تحقيق مستقبل أفضل إلا إذا قامت دولكم بطرد الإرهابيين والمتطرفين. اطردوهم».
ما حدث في الرياض بدا مماثلاً في نظر الدوحة لأزمة 2014 حول التوترات بشأن السياسات القطرية تجاه دول الخليج، وأزمة سحب السفراء، لكنه لم يكن كذلك بدليل التقارير الأميركية التي وإن أشادت بالعلاقات الجيدة مع قطر، فإنها أبدت مخاوفها، كالسعودية والإمارات وباقي دول الخليج، من الدعم السياسي للمعارضات السياسية المقوضة لاستقرار دول المنطقة، حتى وإن ركزت قطر دعمها للتحالف ضد «داعش»، إلا أن «داعش» اليوم في نظر الدول الكبرى وعقلاء المنطقة «نتيجة» وليست سبباً، هي نتيجة لملفات عالقة وخطابات تحريضية، وإهمال لمنطق الدولة وسيادتها، وفي حال القضاء على «داعش»، وبقاء المسببات السياسية، سنرى الإرهاب يطل من جديد عبر منتجات أخرى جديدة تستمد وجودها من حالة الازدواجية والارتباك السياسي بين الذات/ الخليج وبين الرغبة في النفوذ والشره للعب أدوار كبيرة وخطرة، إلى الحد الذي جعل من الباحثة في معهد واشنطن لوري بلوتكين تتحدث عن مقاربات جديدة لإعادة تقييم دور قطر في تمويل العنف والإرهاب، حيث لا يقتصر الأمر على تنظيم داعش، وإنما تمويل الظاهرة، بحسب ورقتها التي قدمتها قبل أيام، والتي تعتبر فيها أن «المشكلة الجوهرية هي أن الأجندة الأميركية لمكافحة الإرهاب تتعارض أحياناً مع ما تعتبره قطر مصالحها السياسية الخاصة. فقد اقتضت الاستراتيجية الأمنية لقطر أن تدعم عدداً كبيراً من التنظيمات الإقليمية والدولية بهدف ردّ التهديدات عن البلاد. وقد تضمنت هذه الاستراتيجية تقديم المساعدات السخية للمنظمات الإسلامية، بما فيها (حماس) و(طالبان) وغيرهما».
هذه التحولات الجديدة تجاه السياسة القطرية لم تتخذها السعودية إلا بعد أن بلغت الأزمة عنق الزجاجة، وأصبح الحديث عن ازدواجية اللعب على خلق المعارضات السياسية، والتمرد على الخط السياسي العام لدول الخليج، حديثاً رائجاً ومشاعاً؛ تحولات تستلزم على المستوى السياسي دفع أثمان قد تكون باهظة ومكلفة قد تنوء بحملها السياسة القطرية، ما لم تهرع إلى طوق النجاة الخليجي الذي أثبت على مدى السنوات الماضية، رغم كل ما يقال، أنه يمثل المقاربة الأكثر رغبة في مستقبل مستقر ومزهر للمنطقة، التي تقف اليوم على المحك.
8:32 دقيقه
TT
خطيئة قطر السياسية... التحولات والأثمان
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة