د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

الدور الحكومي في دعم الاستقرار المالي

يتنوع الدور الحكومي في دعم الاستقرار المالي والاقتصادي، من حيث كونه مباشراً أو غير مباشر. فيكون مباشراً من خلال ضخ السيولة في البنوك أو المشاريع الحكومية، أو غير مباشر من خلال التنظيمات والتشريعات أو عبر البيانات الرسمية للحكومة بما في ذلك تصريحات مسؤولي الدولة. وقد يبدو الدور المباشر للوهلة الأولى أكثر أهمية من نظيرة غير المباشر، إلا أن ضخ السيولة عادة يكون آخر الحلول لدى الحكومات لتفادي الأزمات المالية وما قد يليها من نكبات اقتصادية.
وتُعد التنظيمات الحكومية ضماناً لجميع أطراف الاستثمار من ممولين ومستثمرين. وتبعث هذه الضمانات على الثقة بين أطراف الاستثمار، وهو العنصر الأساسي في الاستقرار المالي، فنسبة الخطر موجودة بأي استثمار وينظر إليها عادة كعامل يتشارك فيه الممول والمستثمر وتلعب الثقة المتبادلة بين الطرفين دوراً كبيراً في تحديد هذه النسبة. وتشارك الحكومة بدورها هذه المخاطرة من ناحيتين؛ الناحية الأولى أن معدل الخطر في الاستثمارات عامل أساسي في النمو الاقتصادي، فانخفاض معدلات الخطر للاستثمارات قد يجعل النمو الاقتصادي بطيء الوتيرة، أما زيادته فيعني أن يكون الاقتصاد هشاً قابلاً للانهيار تحت أي أزمة مالية أو اقتصادية. والحكومة أيضًا شريك في المخاطرة من ناحية مسؤوليتها تجاه المواطنين الموظفين في هذه الاستثمارات، فالقبول بنسبة مخاطرة متدنية يعني انخفاض عدد الاستثمارات، مما قد يؤدي إلى زيادة معدلات البطالة، وزيادتها ينعكس طردياً على نسبة احتمالية إفلاس الشركات، وهو ما قد يؤدي إلى النتيجة نفسها أيضاً.
أول ما يُلتفت إليه حال حدوث تغيرات اقتصادية هو النظرة الحكومية لهذه التغيرات، ويعبر عنها عادة تصريحات المسؤولين في الحكومة. تحرص الحكومات حينها على تبيين الوضع الاقتصادي للمستثمرين بكل شفافية ووضوح، منعاً لحدوث أي حالة ذُعر بين أطراف الاستثمار. حالات الذُعر هذه تكون غالباً بداية الهاوية في الأزمات المالية والمرحلة الأولى لحالة انعدام الثقة بين أطراف الاستثمار. حينها يبدأ المستثمرون بتقييم مشاريعهم بشكل غير عقلاني، مما قد يؤدي إلى قرارات متسرعة تبدأ بتسريح موظفيهم رغبة في تخفيض التكاليف لضمان بقاء المشاريع حية وتصل إلى تصفية الأعمال وإعلان إفلاس شركاتهم منعاً لخسائر يتوقعون حدوثها، وهم في حالة الذعر تلك. بالمقابل، وبغياب العقلانية التي يفرضها الخوف من الخسارة، تقوم البنوك بدورها بإعادة تقييم الاستثمارات في ظل زيادة معدل الخطر التي تفرضها الظروف الاقتصادية المحيطة، مما قد ينتج تخفيض معدل الإقراض والتمويل للشركات وإخراجهم بالتالي من السوق، محدثة بذلك حالة من الفوضى وانتشاراً سريعاً للبطالة. وقد لا تأتي التصريحات الحكومية بما هو جديد على المستثمرين، إلا أن الظهور الحكومي للمستثمرين والتأكيد على معرفة الحكومة بالحالة الاقتصادية الراهنة، يبعث على الاطمئنان بين أطراف الاستثمار. يتمثل ذلك في حادثة لرئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي، حيث أكدت بداية السنة الميلادية الحالية خروجَ المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. إقرار ماي بهذا الخروج كان عبارة عن إبلاغ أن الحكومة البريطانية على علم بما يعنيه هذا الخروج اقتصادياً ومالياً وأنها جاهزة لمرحلة ما بعد الخروج. هذا التصريح دفع السوق المالية للانتعاش وبالجنيه الإسترليني للارتفاع، على الرغم أن الجميع كانوا يعلمون بقرار الخروج قبل هذا التصريح بأربعة أشهر على الأقل!
أما في حال عدم نجاح المحاولات الحكومية في فرض الاستقرار المالي من خلال التصريحات، فهي تنتقل إلى الخطوة التالية، وهي الدعم المالي المباشر من خلال ضخ السيولة في البنوك والمشاريع، مشيرة بذلك إلى أنها شريك للمستثمرين في استثماراتهم ومحاولةً دفع الاطمئنان إلى قلوب المستثمرين. هذا الإجراء متبع من الحكومات منذ نحو قرن من الزمان، حيث قامت الحكومة الإيطالية في ثلاثينات القرن الماضي بشراء حصص من البنوك الإيطالية لمنع إفلاسها. وخلال الأزمة المالية في العقد الماضي، قامت الحكومات بضخ كمية هائلة من السيولة للحفاظ على الاستقرار المالي، منقذة بذلك كثيراً من البنوك والمؤسسات المالية. فقد قامت الحكومة الأميركية بتخصيص ما يقارب 700 مليار دولار لشراء موجودات وعقارات البنوك لمنع استمرار الانهيار المالي. فيما ضخت الحكومة البريطانية أكثر من 500 مليار جنيه إسترليني لدعم ثمانية بنوك بريطانية. وقد شكل الإعلان الحكومي للدعم حينها أهمية لدعم الاستقرار المالي تماثل أهمية الضخ نفسه. وقد تؤثر هذه العملية سلباً على المدى القصير، وذلك بصرف السيولة الحكومية على القطاع الخاص، إلا أنها ودون شك تشكل دعماً أساسياً للاقتصاد الوطني على المدى الطويل.
الدور الحكومي لدعم الاستقرار المالي يبرز بشكل كبير أثناء التغيرات الاقتصادية وتحديداً عند الشدائد، ويكون هذا الدور سلاحاً ذا حدين؛ فزيادة التشاؤم والإحباط في ردة الفعل الحكومية قد يُنتج الذعر بين أطراف الاستثمار ويؤدي إلى سباق بين أطراف الاستثمار للخروج من السوق، وهو ما قد يدخل الاقتصاد في دوامة يصعب الخروج منها. أما الإفراط في التفاؤل فقد ينتج عنه زيادة معدل الإقراض لدى البنوك والدخول في استثمارات يرتفع فيها معدل الخطر كثيراً، جاعلة بذلك البلد عرضة لأي أزمة اقتصادية محتملة. وتبقى الحكومات دائماً في حالة من التوازن بين هذه وتلك، مسيرةً البلد للتوجه الذي تراه مناسباً للأوضاع الاقتصادية المقبلة.
* باحث سعودي متخصص في الإدارة المالية