حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

لا «كوريا شمالية» جديدة في الشرق الأوسط

من جولة الجنرال ماتيس في المنطقة وما أعلنه، إلى مباحثات الوزير تيلرسون في روسيا والمواقف التي رشحت عنها، وبينهما جملة مواقف لأركان الإدارة الأميركية الجديدة مثل الجنرال مكامستر أو السفيرة هايلي، المتغيرات في سوريا (والمنطقة) تتسارع، والأكيد اليوم أن الحرب في سوريا وعلى السوريين مستمرة، مع فارق أنه أكثر من أي وقت مضى، مصير الأسد ونظامه الأمني قيد البحث، ولم يعد بالإمكان تصور أي حل سياسي بوجوده.
منذ الضربة الصاروخية على قاعدة «الشعيرات»، بدأ التغيير الحقيقي في قواعد اللعبة في سوريا. أميركا ترمب تخلت عن مبدأ القيادة من الخلف، واستعادت دورها بوصفها اللاعب الأبرز، مسقطة كل أشكال الحصانة عن رأس النظام السوري، بعدما تأكد أن قصر المهاجرين كان يمكن أن يكون هدفا عسكريا أوليا، وبرز للعيان أن ضربة «الشعيرات» ليست مجرد خطوة تأديب، بل بداية لاستهدافات أخرى. واستطرادا لم تعد الكلمة الأخيرة كلية لموسكو ونقطة على السطر.
ثلاث أولويات وضعتها أميركا، الأولى إلحاق الهزيمة بـ«داعش» واقتلاع الإرهاب، والثانية مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة بوصفه أبرز عوامل عدم الاستقرار، والثالة تشديد المطالبة برحيل الأسد والحكم العائلي من سوريا. وبهذا السياق تُقيّم الجولة المهمة في المنطقة لوزير الدفاع الأميركي ماتيس، والمؤشرات التي حملتها، وهي وإن شكلت الوجه الآخر لمباحثات الوزير تيلرسون في موسكو، فقد ترافقت مع مسألتين:
أولاهما تشديد أميركي على أنه من غير المسموح اكتمال الهلال الشيعي الإيراني، وهنا ليس قليل الأهمية أن تُردد بعض دوائر القرار في واشنطن، من أنه لن يُسمح بـ«كوريا شمالية جديدة في الشرق الأوسط»، وثانيتهما حسم زيادة الحضور العسكري الأميركي القتالي في سوريا، إعدادا لمعركة استعادة الرقة من «داعش»، ولما هو أبعد باتجاه دير الزور. وهنا نفتح مزدوجين للإشارة إلى أن أميركا التي تتجه لحسم معركة الرقة مع تعديل جدي بالقوى المشاركة، وتتحرك لاستعادة دير الزور، وضعت لها أولوية خلق توازن شرق سوريا يوازي الوجود الروسي في الغرب في «سوريا المفيدة»... وبالتوازي، تكون واشنطن مع إنزالها ضربة قاصمة بـ«داعش»، قطعت أمام الإيرانيين إمكانية التواصل البري بين العراق وسوريا، مما يعني بداية وضع النفوذ الإيراني ووجود ميليشيات الحرس الثوري تحت الهراوة الأميركية الثقيلة.
تبلور الموقف الأميركي واستعادته الزخم لدور تخلت عنه الإدارة الأميركية السابقة، أمر تراقبه موسكو، التي لا يبدو أنها الآن بوارد التراجع عن دعم الأسد وحكمه الفئوي، فما زال رئيس النظام السوري ورقة رئيسية بيد روسيا، التي ترفض صفقة محدودة، وتسعى لصفقة شاملة أبعد من سوريا، تشمل أُوروبا أيضا، تُكرس لها دورا استراتيجيا في التصدي للمعضلات الدولية، دور فقدته روسيا منذ زمن بعيد ويحنُّ الرئيس بوتين للعبه مجدداً.
طهران الرافضة أساسا أي تسوية، والقلقة من أن يؤدي التبدل في المعطى الأميركي، معطوفا على رغبة موسكو الدفينة لمساومة مع واشنطن، تقتضي «التضحية» برأس النظام السوري، وتعديل كبير في بنية الحكم، مع تلافي انهيار المؤسسات السورية... تستعجل (طهران) فرض وقائع على الأرض، والحصول على امتيازات كبيرة. الخطة الإيرانية ترمي لتكريس وجود دائم في سوريا، وربما هو في بعض أوجهه احتلال مخملي طويل، مما يقتضي تسريع عمليات الاقتلاع والتغيير الديموغرافي وسط سوريا وفي القلمون الغربي، والمؤسف أن اتفاق المدن الأربع شكل خطوة بهذا الاتجاه، وكجزء من خطتها يجري إدخال تقاليد جديدة على حياة الناس تبدأ بطريقة الكلام والسلام، ولا تقتصر على اللباس، إلى الإمعان في بناء أجهزة أمنية عسكرية فئوية، تفرض عبرها رغبات المرشد بتوسعة النفوذ الإيراني... ورمت طهران من خلال «الاتفاقات» التي أبرمتها، مقابل مليارات الدولارات التي أنفقتها في سوريا، وأعداد القتلى من الميليشيات التي زجّتها، إلى وضع يدها على مناجم الفوسفات وبعض النفط، إلى ملايين الأمتار المربعة حول دمشق لـ«استعمالات زراعية»، والخطة البعيدة المدى تكمن في الالتفاف على الضغوط التي تتجمع في الأفق، للمطالبة بسحب الميليشيات التابعة للحرس الثوري، فيتم تغيير شكلي في دور هذه الميليشيات وشكل وجودها، مما سيرتب في زمن ليس ببعيد مسؤوليات وأعباء كبيرة على السوريين يوم تُستعاد فيه سوريا.
ولأن الصورة على هذا الشكل، وواشنطن تدرك في النهاية أن طهران قادت محور العمل للحد من النفوذ الأميركي، ولأنه لم يعد خفيا على أحد حجم الدور الذي لعبته إيران (ومعها الأسد والمالكي) في توليد أبشع حالات التطرف السني والشيعي، فإن المرحلة الجديدة بالغة الدقة والصعوبة، كي لا تحمل مزيدا من الوصفات، لظهور تنظيمات ما بعد «داعش»، تضع المنطقة وكثيرا من العالم، أمام مزيد من الأهوال.
نعم لا تتحمل المنطقة كوريا شمالية جديدة، والرهان كبير أنه في ضوء المعطيات الجديدة وإدراك موسكو الذي لن يتأخر كثيرا حدود مصالحها وكيفية جني ثمار الدور الذي أدته، ستبدأ مرحلة طي صفحة الأعراف التي أدخلتها طهران إلى سوريا وأبعد من سوريا باسم الدين، ومعها لن تدوم آليات السيطرة العسكرية التي حلّت وسط هذا الفراغ، وقامت على التخريب والقتل وممارسة كل أشكال العنف.