فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

احتدامات سوريا وتبدلات الصراع

تزداد الاحتدامات السياسية والعسكرية في سوريا وحولها؛ ففي الداخل ثمة احتدامات من مستويات متعددة، منها احتدام النظام والمعارضة، الذي يشكل لبّ القضية السورية، والثاني احتدام بين المعارضة وجماعات التطرف والإرهاب، التي ما زالت صورتها غائمة، وإن كان ثمة إجماع على اعتبار أن «داعش» أول تنظيماتها، فإن تنظيمات أخرى أقرب إليها، بخاصة «جبهة النصرة» و«جند الأقصى»، وثمة احتدام إقليمي ودولي في مواجهة «داعش»، يسير بالتوازي معه احتدام بين بعض القوى المحلية والإقليمية، بخاصة تركيا مع «قوات سوريا الديمقراطية» التي يشكل حزب الاتحاد الديمقراطي قوتها الرئيسية... وفي كل هذه الاحتدامات صراعات سياسية، وأخرى ميدانية، حيث تتواصل الهجمات والمعارك بين طرف وآخر، وبين طرف وأطراف أخرى في مناطق سورية متعددة.
غير أن أبرز احتدامات القضية السورية وحولها، هو الاحتدام الروسي - الأميركي المتصاعد بعد الضربة الأميركية على مطار الشعيرات التابع لنظام الأسد، التي جاءت - كما قال الأميركيون - عقوبة للأخير على استخدامه الأسلحة الكيماوية في مدينة خان شيخون مؤخراً، وأدى إلى مقتل وإصابة مئات الأشخاص.
ورغم أن ظاهر الاحتدام الروسي - الأميركي، يستند إلى الهجوم الكيماوي لقوات الأسد على خان شيخون، والدعم الروسي لهذا الهجوم، فإن السبب الجوهري فيه، إنما يعود إلى أمرين اثنين؛ أولهما تعثر مساعي الحل السياسي في «مسار جنيف»، لا سيما بعد جولته الأخيرة، نتيجة تعنت تحالف الروس والإيرانيين مع نظام الأسد وسعيهم لإجبار المعارضة والمجتمع الدولي على المضي إلى حل يتوافق مع سياساتهم وأهدافهم. والأمر الثاني تعقّد الواقع الميداني لدرجة تعدد القوى المتصارعة وتداخلها، وتباين أهدافها، حيث صار من الصعب توافقها على هدف أو حتى على أهداف محددة، ولعل المثال الأبرز على ذلك، إعلان الجميع حربهم على التطرف والإرهاب الذي يجسد «داعش» مثاله الأهم، لكن بعض أطراف؛ أبرزهم التحالف الروسي - الإيراني مع نظام الأسد، لا يضع الحرب على «داعش» من الناحية العملية في مقدمة أهدافه، إنما يضع المعارضة المعتدلة، التي هي طرف معلن في الحرب على «داعش»، في مقدمة أهدافه السياسية والعسكرية.
ولئن جاءت عملية الأسد الكيماوية على خان شيخون في سياق الاستراتيجية العامة لتحالف روسيا وإيران معه في إخضاع السوريين وإعادة السيطرة على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فإنها كانت فرصة للولايات المتحدة لإحداث تبدلات سياسية وميدانية في القضية السورية وحولها، فاستغلتها للقيام بهجومها الصاروخي على مطار شعيرات التابع للنظام، مما فتح الباب أمام تداعيات سياسية وعسكرية جديدة في سوريا وحولها، ترسمها نتائج الاحتدام الروسي - الأميركي، والاصطفافات التي ستتم على جانبيه، وستكون فيها اصطفافات سياسية وعسكرية، وضغوطات متبادلة، ومساعٍ دبلوماسية لإيجاد المشتركات والوصول إلى تفاهمات.
وسط هذه الأجواء في متناقضاتها، تبدو الاحتمالات السورية في ثلاثة مسارات؛ أول المسارات، عودة الأطراف كلها إلى ما كان عليه الوضع قبل الضربة الكيماوية، والتخفيف مما أعقبها من تداعيات سياسية وعسكرية. ورغم أنه احتمال صعب، فإنه وارد؛ إذ لم تبلور الولايات المتحدة موقفاً واضحاً في القضية السورية، يتجاوز ترددها الذي أسسته الإدارة الأميركية في عهد أوباما، وفشلت جهود إدارة ترمب حتى الآن في تجاوزه، رغم كل ما قامت به من خطوات غير مسبوقة؛ منها إرسال وحدات عسكرية إلى سوريا، والقيام بشن الهجمات الصاروخية على مطار الشعيرات.
المسار الثاني، يمثله توافق روسي - أميركي على التوجه نحو الحل السياسي للقضية السورية، وتوفير إرادة سياسية وعملية للذهاب في هذا الاتجاه من خلال العودة إلى «جنيف»، وإجبار نظام الأسد وحلفائه على مفاوضات من شأنها التوصل إلى حل، يوقف الحرب، ويضع البلاد أمام تغيير في بنية النظام، والانتقال إلى نظام جديد يستجيب لاحتياجات السوريين وفق قرارات الشرعية الدولية، لا سيما «بيان جنيف» لعام 2012 وما تلاه.
المسار الثالث، تصاعد الاحتدام الروسي - الأميركي واحتمال مواجهة عسكرية مباشرة بين الجانبين، تكون سوريا ميدانها، وهو أسوأ المسارات، لأنه يمكن أن يتحول في أي لحظة إلى صدام إقليمي، وقد يتجاوزه إلى حرب بينهما، وهو احتمال ضعيف، لأن الطرفين عملا طوال الوقت الماضي على منع حصوله.
أمام المسارات الثلاثة، يبدو أن الدفع نحو إحياء مسار الحل السياسي، هو الأفضل، وهو الممكن الوحيد للخروج من الاحتدامات القائمة، سواء في مستوياتها الداخلية أو الخارجية، لأن من الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على احتمال السياسة التي اتبعتها إدارة أوباما، وأنها مُصرة على الوجود والفعل في القضية السورية ومحيطها، كما أن من الواضح عجز روسيا عن تحقيق أهداف تحالفها في سوريا ومحيطها، وأنها إذا أصرت على المضي في الطريق ذاتها، فقد تتهدد كل مكانتها ومكاسبها في سوريا، التي حققتها في المرحلة الماضية.