د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

مشقة الإصلاح وسهولة الثورة

في الظاهر أن الثورة حدث استثنائي تاريخي قلما يحصل ويحتاج إلى زمن طويل وتراكم الأحداث الصغيرة حتى تتجمع مع بعضها بعضاً ويتم الانفجار الذي يتخذ شكل الثورة. بل إن الثورة حدث يباغت الجميع ويكون مفاجئاً ولا يعلن عن نفسه إلا بالنسبة للمفكرين الذين يجيدون تأمل أوضاع المجتمعات وتحليل مظاهرها ووضع استنتاجات أولية لما يمكن أن يؤول إليه الوضع بشكل عام.
فالثورة في بُعد من أبعادها احتجاج عالي النبرة وأعلى مستويات الرفض والاحتجاج. كما أنّها تنطوي على هيمنة الانفعال والموقف في لحظة تاريخية يصعب فيها استمرار الوضع والنظام القائم.
إذن الثورة حدث متعدّد الأطراف؛ المجتمع والنخبة والتّاريخ. لحظة ميلاد اجتماعية جديدة قد تلبي أسبابها وأهدافها كما قد تنتكس ويتم التفويت في تلك اللحظة وندخل في مرحلة تسجيل خسائر الثورة بدلاً من تسجيل منجزها وفاعليتها كعامل للتغيير الاجتماعي العام الذي يشمل مناحي الفعل الاجتماعي كافة.
بيت القصيد أن الثورة ذات أسباب موضوعية، ولكنها تخضع لكلمة التاريخ وللصدفة ولحدث مباشر يُفجرها... فتكون السلطة للحظة التاريخيّة، ناهيك بأن الثورة هي ليست فقط نتاج ما هو موضوعي من أسباب ومحركات.
لنأتِ الآن إلى ما هو أصعب حسب تقديرنا والمتمثل في الإصلاح والأشبه ما يكون في بلداننا بالمشقة والمحنة الصعبة.
ولعله من المهم الإشارة إلى أن الإصلاح يعقب الثورة كما يمكن أن يستغنى عن الثورة كحدث ومنعرج تاريخي ويؤمن الانتقال السلس من خصائص شمولية في الحكم إلى غيرها تعبر عن انتقال ديمقراطي.
مبدئياً وظاهرياً الجميع يتغزل بالإصلاح ويمدحه ويقول فيه أجمل الكلام وأعذبه، ولكن عملياً وفي باطن حقيقة الأشياء نجد أن الإصلاح منبوذ من الأغلبية. وهو منبوذ لاعتبار أساسي يتمثل في أنه يهدد المصالح ويقوم بمقاومة مظاهر الفساد والمحسوبية، لذلك فإن للإصلاح أعداء أكثر مما يمكن أن نتخيل أو نتوقع. ويكفي أن نرفع الإصلاح عنوان مرحلة حتى يبدأ الصراع القوي والصعب، خصوصاً أن الإصلاح يشمل ظواهر سلوكية ويستهدف بشكل مباشر عقلية تشكلت على امتداد عقود، أي أننا أمام مشكلات بنيوية متجذرة في الممارسات والسلوك وتستدعي نفساً طويلاً كي تبدأ في التغيير.
وفي هذا السياق لا بد من أن نضع في الاعتبار أن الإصلاح عملية صعبة: كالسباحة ضد التيار. كما أن للإصلاح أيضاً ضحايا كثر قليلاً ما يظهرون في الصورة وهم من يدفعون ثمن مخاض الإصلاح سراً.
يحتاج الإصلاح في أي مجتمع إلى إرادة سياسيّة واضحة وعازمة وقوية، وتترجم الإرادة السياسية بالإجراءات والقوانين الرادعة والمحاربة لكل ما يعيق الإصلاح وتكون ذات طابع زجري لا تقبل المساومة. ولا ننسى أن الإرادة السياسية عندما تكون في تمام الوعي بضرورة الإصلاح كحل لا مفر منه لإنقاذ البلاد واستئناف التنمية والخروج من المديونية، فهي تمهد الأرضية لانبثاق وانطلاق عملية الإصلاح.
من جهة ثانية، لنعلم أن الإصلاح والتعثر الاقتصادي يضران بعضهما بعضاً؛ عندما تتدهور الأوضاع الاقتصادية وتتراجع المقدرة الشرائية ويتفاقم عدد المعطلين عن العمل وترتفع نسبة الفقر تكثر مظاهر الفساد، خصوصاً الرشى والتجارة الموازية المعروفة بالسوق السوداء والتجاوزات في التصرف المالي في الإدارات والمال العام... وكل هذا يزيد من صعوبة الإصلاح ويجعل من قوى الشد أكثر بأساً.
وفي هذا السياق لا بد من التوضيح أن البنوك الدولية لا تقدم القروض ولا تتبنى مشاريع الإصلاح التنموية إلا إذا تأكدت من تراجع مؤشرات الفساد لصالح نمو مؤشر الحوكمة والحكم الرشيد الصالح.
بمعنى آخر التعثر الاقتصادي يحتاج إلى الإصلاح، وفي الوقت نفسه يشوش على عملية الإصلاح.
وإلى جانب الإرادة السياسية والحوكمة اقتصادياً ومالياً، فإن عملية الإصلاح تحتاج إلى رافد ثالث يقويها ويدعمها ويساعدها على السباحة ضد التيار والوقوف في وجه أصحاب المصالح والمستفيدين من غياب الإصلاح. ويتمثل هذا الرافد في دور الإعلام بوصفه سلطة رابعة لها من قوة التأثير والفضح ما تجعل عدو الإصلاح يحسب ألف حساب.
إن الإصلاح صعب ولكنّه ليس مستحيلاً. وهو واجب الجميع وليس ترفاً يرفع كشعار للتزويق السياسي، فالعالم ما بات يعمل بالشعارات، لذلك فالدعوة إلى الإصلاح والجهاد من أجله أصبحت مفتاح النجاة من عنق الزجاجة... بمعنى آخر، فإن الحكم الرشيد هو آخر خشبة نجاة في هذه اللحظة الصعبة متعددة العواصف.