إميل أمين
كاتب مصري
TT

الملك سلمان... وحوار الأديان

في الوقت الذي تتصادم فيه الشعوبيات وتتناحر القوميات، وبين هذه وتلك تثور الخلافات بين أصحاب الثقافات المختلفة، عطفاً على استخدام التيارات السياسية للأديان كمطية براغماتية لتحقيق أهداف تتصل بالهيمنة على العالم، وفيما تغازل الراديكاليات العنيفة قلوب وعقول الشباب بالمفاهيم المغلوطة للأديان، في هذا الوسط الهائج المائج المضطرب يصبح الحديث عن فرص التلاقي والتلاحم، والفهم والتفاهم، وقبول الآخر، بمثابة إشعال شمعة في الظلام الحالك.
مؤكد أن هذا ما فعله خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في زيارته الناجحة لإندونيسيا، عبر حديثه عن أهمية الحوار بين أتباع الأديان والثقافات لتعزيز مبادئ التسامح، والتي بات العالم يفتقدها على نحو واضح.
الدعوة هنا تكتسب مذاقاً خاصاً، فالملك سلمان يمثل المملكة قبلة المسلمين، وقلب الإسلام النابض حول العالم، الأمر الذي يقطع الطريق على دعاة الكراهية وحراس تراث الصدام التاريخي شرقاً وغرباً، الساعين لحروب ذهنية كانت أو مادية.
لقد أشار خادم الحرمين إلى أن الأديان تسعى إلى حماية حقوق الإنسان وسعادة البشرية، ومن هذا المنطلق فإنها تشكل حائلاً وحاجزاً يصد غوائل الغلو، ويحارب تطرف المتطرفين، في جميع الأديان ومن كل الثقافات.
حديث الملك سلمان أمل مصحوب بعمل، وخير برهان على صدقية ذلك التوجه هو تبني المملكة مفهوم الحوار بين أتباع الأديان والثقافات فعلاً وقولاً، عبر إنشاء مركز للحوار بين أتباع الأديان والثقافات «كايسيد»، في العاصمة النمساوية «فينيا» رغبة منها في تعزيز الحوار بين الجميع.
أحسن خادم الحرمين في اختيار الزمان والمكان، لتصريحاته التي ثمنها العقلاء والحكماء حول العالم، فإندونيسيا رغم أكثريتها الإسلامية إلا أن روح التعايش والتسامح بين أبنائها، تعد مثالاً طيباً، وقد كفل لها هذا العيش المشترك في وئام وسلام، مناخاً سياسياً مستقراً، مهد كذلك لنهضة اقتصادية تتحدث بها الركبان كما يقال.
دعوة الملك سلمان تجد صداها في الفهم الواسع والعميق للإسلام معنى ومبنى، ذلك أن التعددية هي سنة الله في الكون، والخالق سبحانه خلق البشر مختلفين إلى يوم القيامة، وإليه تعالى مرجعهم فيحكم بينهم.
تجيء الدعوة الكريمة في وقت يعاود فيه العالم الاحتكام إلى أدوات التعامل الخشنة، وقعقعة السلاح باتت تسمع اليوم من مشارق الشمس إلى مغاربها، ولهذا تبقى الحاجة لحوار أتباع الأديان والثقافات كي يتعلم البشر كيفية الاختلاف بأسلوب حضاري ناضج، يهدف إلى مزيد من أنسنة الإنسانية، بعد أن قزمتها الآيديولوجيات البشرية بالتطرف أقصى اليمن أو اليسار.
يحتاج العالم اليوم أشد ما يحتاج إلى عودة زمن التلاقح الحضاري والتثاقف بين أبناء الأديان السماوية الثلاثة على نحو خاص، وبينهم جميعاً بوصفهم أبناء إبراهيم الموحدين، وبين بقية ثقافات وحضارات العالم، حيث أكثر من نصف سكان البسيطة خارج المفاهيم العقائدية الإلهية بمفهومنا.
هنا تكتسب الدعوة إيقاعاً إيجابياً خلاقاً، سيما وأنها تهدم جدران الخوف التي بناها صموئيل هنتنغتون عالم الاجتماع الأميركي الأشهر، تلك الجدران التي تمثل سداً وحداً في مواجهة التعددية، والقائلة بحتمية تقسيم العالم إلى كتل حضارية قائمة في ذاتها، متماسكة فيما تمثله لذاتها من عمارة فكرية وبناء أخلاقي.
يدرك خادم الحرمين برؤية استشرافية أن العالم أمام لحظة مفصلية فإما الاتفاق أو الافتراق، والقول بأن ثمة ثقافات وأدياناً غير قابلة في جوهرها وماهيتها للتواصل والانسجام مع الآخر، هو افتراء فكري، وخطر واقعي يجعل أتباع أديان بعينها في نظر الآخرين قنابل موقوتة مؤهلة لأن تنسف استقرار العالم، وهو طرح غير موضوعي لا يتجاوزه إلى الحقيقة إلا فرح اللقاء بالآخر، والمقاربات الفكرية والإنسانية معه وإليه.
تدفعنا دعوة خادم الحرمين للإشارة إلى أن حوار أتباع الأديان والثقافات يتجاوز الأفكار النمطية التقليدية التي عرفتها القرون الوسطى، عبر الديالكتيك الفلسفي الذي يتوقف عند المقارعات الفلسفية أو البراهين العقلية، ذلك أنه يهيئ العيش لعالم أفضل، ويخدم مسار المصالح الوطنية المتنوعة للدول والشعوب، من تحقيق صيانة الذات والاستقلال ووحدة الأرض، والأمن القومي والأوضاع الاقتصادية الجيدة... هل هذه مبالغة؟
بالعودة إلى السؤال الاستفهامي المثير والخطير الذي طرحه وزير الثقافة الفرنسي الراحل والأديب الكبير «أندريه مالرو» هل سيكون القرن الحادي والعشرين قرناً دينياً أم لا؟ نجد أن الصحوات الدينية التي نراها من حولنا، من روسيا شرقاً إلى أميركا المحافظة من جديد غرباً، تثبت لنا أننا نعيش في عالم الباحثين عن الحقائق الدينية المطلقة، المنافي لعالم الخواء الروحي والإنساني، ولهذا فإن ارتباط الحوار بين أتباع الأديان جدي وجذري بحال ومآل العالم على كل أوجهه ومنحنياته.
إن التجربة الناجحة لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز للحوار بين أتباع الأديان والثقافات «كايسيد» في النمسا، تؤكد على أن المملكة تفكر بعزم وتعمل بحزم من أجل عالم من الحوار الصادق والمخلص، الساعي لنشر ثقافة السلام والمودة، في الأجواء المزدحمة بالخصام والكراهية.