عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

دور إماراتي في مصالحة سودانية؟

لا أدري عدد المرات التي تداول فيها السودانيون مقطع فيديو كلمة الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي، الأسبوع الماضي عن وقفة السودان وموقف رئيسه عمر البشير في حرب اليمن، لكنني أحسب من ردود الفعل الواسعة أن عدداً مقدراً منهم تابع المقطع وعقب عليه. فطبيعة أهل السودان التفاعل مع كل ما يقال في حقهم، أو عن بلدهم، وتغلب عليهم عاطفتهم الجياشة في قياس كل كلمة أو حركة في هذا الشأن. حدث هذا الأمر مع مقطع فيديو الشيخ محمد بن زايد، وقبلها مباشرة مع مقال الأستاذ تركي الدخيل في هذه الصحيفة بعنوان «في بلاد الناس الطيبين»، ولم يكن ذلك غريباً.
على المستوى الشخصي وردني مقطع الفيديو على بريدي وفي مواقع التواصل الاجتماعي مرات ومرات في غضون ساعات، وفكرت في التعليق عليه في مقالي الأسبوع الماضي، لكنني تريثت لكي يخرج رد الفعل من دائرة العاطفية إلى العقلانية. خطر لي لو أن الإمارات تستخدم رصيداً هائلاً من الحب والتقدير المخزون في نفوس السودانيين، لكي تقوم بدور اعتادت عليه منذ عهد المغفور له «حكيم العرب» الشيخ زايد، رحمه الله، هو المساعدة في لم الشمل. فالسودان يمر بأزمة طالت واشتدت، أرهقت البلد، وأعيت أهله سبل البحث عن حل لها ومخرج منها.
ليس خافياً على أحد أن الأوضاع المحتقنة تهدد السودان وسلامة أهله، وأن استمرار التردي والحروب والصراعات قد يهيئ لمزيد من التفكك بعد أن انسلخ من بلد المليون ميل مربع (سابقاً) الجنوب وذهب مع النفط إلى حروب وصراعات ترتد إلى الشمال أيضاً بشكل أو آخر.
على مدى أكثر من 27 عاماً هي عمر «نظام الإنقاذ»، خاضت الحكومة والمعارضة جولات كثيرة، لكن أياً منهما لم يتمكن من القضاء على الآخر، وبقي البلد يعاني، وأموره تتردى، في انتظار فرج لم يأت خصوصاً مع ترهل السلطة وشيخوخة المعارضة. أطلق النظام دعوة الحوار الوطني الذي انتهى بعد ثلاث سنوات حفلت بالجدل، والصراعات، والمناورات إلى النقطة التي بدأ منها، وهي الخلاف الحاد والاستقطاب الشديد بين الحكم والمعارضة. فكل ما انتهى إليه الحوار لم ولن يحقق سلاماً أو استقراراً مهما قيل عن حجم التوصيات، أو المحاولات لتشكيل حكومة وفاق. فالحقيقة هي أن أطرافاً فاعلة بقيت خارج الحوار، بينما بدت غالبية الشعب غير مقتنعة بنتائجه التي لم تنعكس بأي شيء إيجابي على أوضاعهم السياسية أو الأمنية، وبالذات على الأمور المعيشية والأحوال الاقتصادية.
البلد لن تفيده حوارات تكتيكية هدفها ضمان استمرار هيمنة طرف واحد، ولا مصالحات تقوم على توزيع المناصب والمغانم. لن تخرجه من أزماته شعارات «مشروع مارشال»، أو تسويق حلم رخاء موعود بعد الرفع المشروط والمحدود للعقوبات الأميركية. فكل الشعارات والوعود الرنانة جربت وفشلت، وبقيت الأوضاع تدور في ذات الحلقة المفرغة، بينما يشعر الناس بالقلق على بلدهم في ظل أوضاع مضطربة في المنطقة عموماً.
إذا كان للسودان أن يتجاوز محنته الطويلة، فالمخرج اليوم قد يكون في مصالحة حقيقية، صادقة وشاملة تبدو الظروف مواتية لاغتنام فرصتها. المعارضة تبدو أكثر من أي وقت مضى منفتحة على فكرة حوار ومصالحة، خصوصاً مع المخاوف من أن يؤدي قمع الثورات والانتفاضات إلى مآلات على غرار ما شهدته بلدان أخرى. في هذا السياق أعلن السيد الصادق المهدي أخيراً أن الأحزاب المعارضة والفصائل المنضوية في تحالف «نداء السودان» تخلت عن فكرة إسقاط الحكومة بالعمل المسلح، وأنها ستواصل العمل بكل الأساليب الأخرى المتاحة لها.
في الجانب المقابل فإن البشير جدد كلامه عن أنه لا يريد أن يبقى في الحكم بعد نهاية ولايته الراهنة في 2020، حيث سيكون قضى في السلطة 31 عاماً، وهو ما لم يحدث لحاكم في تاريخ السودان. صحيح أنه سبق أن قدم وعوداً مماثلة ثم تراجع عنها، لكنه قد يشعر هذه المرة، أن المصالحة الوطنية قد توفر فرصة لمخارجة سلمية ينهي بها عهده. فالحكم مهما طال ينتهي بأحد ثلاثة طرق: التنحي الطوعي السلمي، الإطاحة، أو حكم الله. والطريق الأول هو الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يسلكه، إن أراد، برغبته.
المصالحة يمكن أن تختصر للسودانيين طريقاً طويلة من المعاناة، وتوفر الظروف لحوار ينهي الحروب ويحقق السلام بشروط تعيد السودان إلى سكة الديمقراطية. لكن جمع الأطراف قد يحتاج إلى دعم ورعاية طرف مثل الإمارات بما لها من رصيد محبة وثقة وسط السودانيين.
الشيخ محمد بن زايد ختم كلمته العامرة بالود للسودان وأهله قائلا: «هذا الموقف نخلفه على عيالنا، وعيال عيالنا، وأمانة في رقابنا». ولا أحسب أن شيئاً يمكن أن يضاهي مبادرة تنجح في تحقيق مصالحة سودانية تخرج البلد من وهدته، وتجعله يتفادى مزيداً من المخاطر والمعاناة.