د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

ثقافة الجماعة ضد العمل الجماعي

هناك ظاهرة غريبة ومزعجة في مجتمعاتنا، وتستحق الطرح لمحاولة تفكيك الطابع الانفصامي الذي يطغى عليها ويحول دون فهمها.
المعروف عن الثقافة العربية ذات الولاء للقبيلة ولقيمها، أنها شديدة الاعتزاز بسلطة الجماعة وحتميتها في مقابل القمع المتراكم تاريخيًا للفرد. أي أن الجماعة هي التي تتحكم في الشيء الذي عطل على امتداد العقود الأخيرة عملية الانتقال من طور الجماعة إلى المجتمع؛ ذلك أن مخاض الانتقال يعرف صعوبات جمة بدأت تظهر منذ ظهور دول الاستقلال الحديثة وبناء الدولة.
إذن، نحن أمام خاصيتين متنافرتين: ثقافة تُمجد الجماعة على حساب الفرد، تتعامل بصعوبات كبيرة مع مقتضيات وشروط العمل الجماعي الذي يعد خاصية أساسية في عالم اليوم.
قد نفهم كون مجتمعاتنا تؤمن بالجماعة ونشأت على حكم الجماعة وعصا الجماعة وقيم الجماعة وقهر الجماعة وحكمة الجماعة... كل هذا واضح بشكل جلي في تاريخ المعيش الثقافي العربي ويتمظهر دون عناء يذكر في التمثلات والمخيال، حيث نجد الجماعة متربعة على عرش كل ما هو قيمي ورمزي وضابط للمعايير.
استنادًا إلى المنطق؛ فإن المتوقع هو أن المجتمعات التي تعلن الولاء للجماعة، ولم تستطع الذهاب بعيدًا في مفهوم الفاعل الاجتماعي والذات الفاعلة المتحررة من سطوة الجماعة.. المتوقع منها أن تكون أول المدافعين عن العمل الجماعي.
فالعمل الجماعي هو طريقة العالم اليوم في العمل: عالم يقوم على الشبكات والاختصاصات الدقيقة، وتوزيع الأدوار، وشبه تأليه لمبدأ العمل الجماعي.
ولكن واقع العمل في العالم العربي يستند إلى سلطة الفرد والعلاقات العمودية دون أي اكتراث توجه العالم اليوم نحو الانتصار للعلاقات الاجتماعية الأفقية.
هناك مشكلة حقيقية في بلداننا في مستوى التفكير الجماعي والعمل الجماعي: المشاركة ضعيفة والتشاركية ضعيفة، ومسألة التبادل فيما يخص الخبرات والتفاعل من أجل عمل يجمع خلاصات خبرات فردية ومهارات فردية أكثر من هزيلة.
ما زلنا نعاني آفة الرأي الواحد والقرار الواحد، وكأن في غالبية الرؤوس العربية يُعشش نظام رئاسوي شمولي.
نحتاج إلى أن ننتبه إلى الصعوبات الحقيقية التي نعيشها في السلوك والممارسات في مجالات العمل وحقوله، وفي كل ما يتصل بالفعل الاجتماعي وأبعاده.
السؤال: كيف نؤسس لمفهوم العمل الجماعي؟ كيف نربط بينه وبين ثقافة أهمية الجماعة وتأثيرها؟ كيف يمكن بناء ثقافة العمل الجماعي في الوقت الذي نواصل فيه معركة الذات العربية، وتأمين عملية الانتقال من صورة العون الاجتماعي إلى صورة الفاعل الاجتماعي؟ ولماذا الإنسان العربي المقموع ثقافيًا من مؤسسات التنشئة الاجتماعية من العمل الجماعي الذي يمكن أن يكون الفضاء الأرحب لتحرير الذات والإبداع أيضًا؟
أعتقد أن أول نقطة مهمة لا بد منها هي إعطاء أهمية لمسألة الحوار داخل المجتمع: مجتمعاتنا لا تعرف نفسها بما في ذلك النّخب. تهيمن على العلاقات داخل النخب ثقافة الجدار والمسافة؛ لذلك فالناس حتى المعرفون لا يعرفون بعضهم بعضا. لا بد من الرهان على النقاشات والحوارات، وأن يطرح كل ما يهم السياسة والثقافة والاقتصاد، وما ينفع مجتمعاتنا فوق الطاولة.
ولا مجال أيضًا للعمل في حلقات مغلقة: فمن المهم جدًا انفتاح المؤسسات في بلداننا على الكفاءات، والاستئناس بوجهات نظرهم وطرائق مقاربتهم، وأن تكون الاختيارات جماعية، ومن ثمة القرار يصبح بالضرورة وآليًا وفق منطق العمل جماعيًا.
ففي العمل الجماعي انتصار على استبدادية الرأي الواحد وقصوره الطبيعي، وفتح المجال لمصالح الناس بأن تجد حقها بأكثر قدر ممكن من الموضوعيّة. وهو ما بدأ يحصل في المجال الحقوقي والمدني، حيث الفكرة الأساسية تفتيت القرار وتبجيل مبدأ العمل الجماعي على مبدأ فردنة العمل وتفقيره من خلال جعله نتاج خبرة واحدة لا مجموعة من الخبرات.
إن المجتمع لا يبدع إلا جماعيًا، ولن يقاوم ثقافة الرأي الواحد والقرار الواحد والتفكير الأحادي رؤية ومنطلقاتٍ ومصلحة وفائدة إلا بإعلاء شأن العمل الجماعي، وإذكاء روح الجماعة إيجابيًا؛ كي نضمن للأفراد حقوقهم؛ لأن الجماعة هي التي تحمي حق الفرد ومصلحته.
وكي نتمكن من الاشتغال فعليًا وواقعيًا على غرس قيمة العمل الجماعي وربطه بمصلحة الفرد؛ لا مناص أيضًا من الاشتغال على أفكار أخرى تعطي لكل فاعل مساهم في العمل الجماعي حقه من المساحة والنجاح.
وهكذا، نفهم لماذا يعتبر العمل الجماعي في ثقافتنا هو دائمًا يصب في صالح شخص واحد، والاعتقاد أن صاحب الحصاد لا يكون إلا واحدًا بعينه.
إن الاعتقاد في العمل الجماعي من شروط التحرر من الفقر الفكري وضعف خصوبة الحلول الاجتماعية.