مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

لا حول ولا قوة إلاّ بالله

قرأت عن هذه الواقعة الحقيقية المؤلمة التي آلمتني وأريدكم أن تتألموا معي:
إبان الحرب الأميركية في فيتنام، رن جرس الهاتف في أحد منازل أحياء كاليفورنيا الهادئة. كان المنزل لزوجين عجوزين لهما ابن واحد مجند في الجيش الأميركي، كان القلق يغمرهما على ابنهما الوحيد، يدعوان لأجله باستمرار، وما إن رن جرس الهاتف حتى تسابق الزوجان لتلقي المكالمة في شوق وقلق.
الأب: هالو - من المتحدث؟!
الطرف الثاني: أبي، إنه أنا كلارك، كيف حالك يا والدي العزيز؟
الأب: كيف حالك يا بني، متى سعود؟
الأم: هل أنت بخير؟
كلارك: نعم أنا بخير، وقد عدت منذ يومين فقط.
الأب: حقًا، ومتى ستعود للبيت؟ أنا وأمك نشتاق إليك كثيرًا.
كلارك: لا أستطيع الآن يا أبي، فإن معي صديقًا فقد ذراعيه وقدمه اليمنى في الحرب، وهو بالكاد يتحرك ويتكلم، هل أستطيع أن أحضره معي يا أبي؟!، فسأله الأب متعجبًا: هل تحضره معك؟!، قال: نعم أنا لا أستطيع أن أتركه، وهو يخشى أن يرجع لأهله بهذه الصورة، ولا يقدر على مواجهتهم، إنه يتساءل: هل يا ترى سيقبلونه وهو على هذا الحال، أم سيكون عبئًا وعالة عليهم؟!
فصمت الأب قليلاً ثم أجابه: يا بني ما لك وما له اتركه في حاله، ودع الأمر للمستشفى ليتولاه، ولكن أن تحضره معك فهذا مستحيل، من سيخدمه؟!، خصوصًا وقد فقد ذراعيه وقدمه اليمنى، إنه سيكون بلا شك عالة علينا، من سيستطيع أن يعيش معه؟!
وساد الصمت طويلاً بينهما قطعه الأب وهو يقول: كلارك هل تسمعني، لماذا لا ترد؟!، فرد عليه قائلاً: إنني أسمعك يا أبي، ولكن هل هذا هو قرارك الأخير؟!، فأجابه: نعم يا بني، اتصل بأحد أفراد عائلته ليأتي ويتسلمه ودع الأمر لهم، فسأله الابن: ولكن هل تظن أن عائلته ستتقبله؟!، فأجابه: لا أظن يا ولدي، لا أحد يقدر أن يتحمل هذا العبء، فقال له كلارك: إذن لا بد وأن أذهب الآن، وداعًا يا أبي وقبلاتي لأمي.
وبعد يومين من تلك المحادثة، انتشلت القوات البحرية جثة المجند كلارك من مياه خليج كاليفورنيا، بعد أن استطاع الهرب من مستشفى القوات الأميركية، وانتحر من فوق أحد الجسور.
ودُعي الأب لتسلم جثة ولده، وكم كانت دهشته وفجيعته عندما وجد جثة ابنه بلا ذراعين ولا قدم يمنى - انتهى.
للأسف هناك بعض الأسر لا يطيقون التعايش ولا رعاية أبنائهم المعاقين، ويضيقون بهم ذرعًا، وأسهل ما عليهم أن يرموهم في دور رعاية المعاقين، وكثر الله خيرهم لو أطلوا عليهم مرة واحدة في السنة، ولو الهوى هواهم لتبرأوا منهم أصلاً... لا حول ولا قوة إلاّ بالله.