خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ابن الرومي يجزع من نفسه

كتبت في مقالة سابقة كيف أن ابن الرومي قلما ترك شاعرًا لم ينله بهجائه. ولكن والحق يقال، إنه لم يبخل في هذا الهجاء على نفسه، ومن طبيعة الساخرين أن يسخروا بدءًا من أنفسهم. وكان ذلك مفهومًا فيه ومتوقعًا حقًا. لقد توفي والده في شبيبته ولحق به أخوه. ثم فقد أولاده الثلاثة الذين رزقت بهم زوجته قبل رحيلها هي الأخرى بموتها في شبابها. عاش لردح من الزمن في تشرد وعزوبة بائسة قبل زواجه ثانية في كبره. وتكررت المأساة فماتت هي الأخرى ثم فقد ابنه الوحيد منها. هل بعد ذلك من شؤم يصادفه إنسان؟ كان من نتائج هذه الصدمات أن أدركته الشيخوخة مبكرًا فلحق به الشيب والصلع وتجهم الوجه، فلم يجد بدًا من أن يصف نفسه بهذه الكلمات:
من كان يبكي الشباب في جزع
فلست أبكي عليه من جزع
فإن وجهي، بقبح صورته
ما زال بي كالمشيب والصلع
إذا أخذت المرآة سلفني
وجهي - وما مت - هول مطلعي
شغفت بالخرد الحسان وما
يصلح وجهي إلا لذي ورع
كي يعبد الله في الفلاة ولا
يشهد فيه مساجد الجمع
سواء جاءه الشؤم بسبب ما آلمت به النوائب أو زاده فيها اختلال عصابي في طبيعته فإنه مال إلى التطير من أبسط وأتفه الأشياء والشخصيات. كل ذلك جعله يتطير من أي شيء، فهجا حتى الحيوانات البريئة والنباتات المفيدة والجميلة كهجائه للمشمش والعوسج. وترددت عن تشاؤمه حكايات كثيرة. زاره أحد الرجال وقال: جئت ابن الرومي فرأيته عليلاً قبيل موته. سألته: إيش خبرك؟ فقال: أي شيء خبر من يموت. قلت له: لا. أرى سحنتك صافية حسنة. فقال: هكذا حال من يموت. يكون حسن الوجه قبل موته!
فقلت: عافاك الله. قال: خذ حديثي. أحببت أن أسكن مدينة أبي جعفر فشاورت صديقًا يدعى أبا الفضل. وهو مشتق من الأفضال. فقال لي: إذا عبرت القنطرة، فخذ على يدك اليمنى، وهذا مشتق من اليمن. واسأل عن سكة النعيمية، وهو مشتق من النعيم. وعن دار ابن المعافى - وهو مشتق من العافية. فخالفته لشؤمي واقتراب أجلي. وشاورت صديقًا آخر يقال له جعفر، وهو مشتق من الجوع والفرار. فقال لي: إذا عبرت القنطرة، فخذ يسرة - وهو مشتق من العسر. واسأل عن العباسية، وهو مشتق من العبوس. واسكن في دار قليب وهو مشتق من الانقلاب. وقد انقلبت الدنيا كما ترى. وأعظم ما يؤلمني أنه تجتمع على هذا السور العصافير وهي تصرخ في وجهي: سيق! سيق! وهو من السياق وأنا الآن في السياق.
قال الراوي: فخرجت وعاودته في الغد، فإذا قد مات!
ويظهر أن الناس أدركوا ذلك فيه فراحوا يتمازحون على حسابه. يروي ابن الأخفش فيقول إنه كان يقرع بابه فيسأل: من الطارق، فأقول: حنظلة، ونحو ذلك. فيحبس نفسه طوال ذلك اليوم تطيرًا من الاسم!