رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الفتنة والحرب الأهلية وانسدادات النظام السياسي

في الشهرين الأخيرين السابقين على الانتخابات الرئاسية الأميركية، كنتُ أكتب لإحدى المجلاّت التي أراد القائمون عليها إصدار عددٍ خاص عن «الاضطراب العربي والإسلامي»، بحثًا عن الدلالات التاريخية والفقهية لمفهوم «الفتنة» أو الحرب الداخلية واستعمالاته واستغلالاته في العصر الإسلامي الأول. وقد كان الغالب على الدراسات في الموضوع، اعتبار المصطلح والمفهوم من صنع السلطات السياسية لمواجهة المعارضين والمتمردين المسلَّحين. والشاهد على هذا الاستغلال من جانب السلطات ما قاله عبد الحميد الكاتب رئيس الديوان الأُموي، محذِّرًا، إنّ «الفتنة تنقُلُ الدولةَ والنِعَم». بيد أن الإشكال أو الاستشكال لديّ منذ زمنٍ بعيد، أنّ السلطات ليست هي التي اخترعت المصطلح والمفهوم، كما أن الذين قالوا به ورتّبوا على ذلك نتائج شاسعة، ما كانوا في الأعمّ الأغلب من رجالات السلطة، بل كانوا من معارضيها، ومن هؤلاء أُناسٌ محسوبون على أهل الحديث، وآخرون محسوبون على الفقهاء. وأهل الحديث هم الذين رووا الأثر القائل (على الاختلاف في صحته): «تكون الخلافة ثلاثين عامًا ثم يكون مُلْكٌ عَضوض». ولأنّ زمن الخلافة ذاته قُتِلَ خلاله أميرا المؤمنين عثمان وعلي، فإنّ رُواة الأثر المذكور صاروا إلى القول بالجماعة والطاعة، لأن النزاع الداخلي المسلَّح في زمن المُلك العضوض لا يؤدّي إلى خير. وما اختلف معهم أهل الفقه في ذلك، لكنهم اعتبروا أنّ هذا التسليم لا يحلُّ المشكلة، بل إنها ستتعاظم وستزداد التمردات والانشقاقات العقدية والسياسية. ولذلك فإنّ الحلَّ أو المخرج يتمثّل في فتح النظام السياسي، بحيث تُسمع مطالبُ المعارضين لأسباب سياسية، ويجري الاحتكام إلى المخرج الذي اعتمده القرآن الكريم في الآية المشهورة في سورة الحجرات: «وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصِلحوا بينهما * فإنّ بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيءَ إلى أمر الله * فإنّ فاءت فأصِلحوا بينهما بالعدل وأقسِطوا إنّ الله يحبُّ المقسطين». ففي الحالتين: المطلب السائغ قبل التجمهر والتسلُّح، وبعد حمل السلاح، فإنّ النزاع ينبغي أن ينتهي بالعدل والقسط والمصالحة، لأن الطرفين دعوتُهُما واحدة، أي أنهم أبناء المجتمع ومواطنوه. وبهذا الاعتبار، فإنّ كل كتب الفقه العام، ومنذ كتاب «الأمّ» للشافعي (204ه) تتضمن بابًا في أحكام البُغاة أو المعارضين الذين «لهم تأويلٌ سائغ»، بمعنى أنهم ليسوا قطّاع طُرُقٍ ولا محاربين، وهي تدعو للاعتراف بهم، والاستجابة بقدر الإمكان لمطالبهم حتى لا يتعاظم الاضطراب، ويتهدد أمن المجتمع والدولة.
لماذا أقول ذلك هنا والآن؟ لأن المراقبين الأميركيين وغيرهم للانتخابات الأميركية قالوا إنّ الذين انتخبوا دونالد ترامب هم جمهورٌ جديدٌ غاضب، فيه المحقّون وفيه المبطلون، لكنهم جميعًا ما احتاجوا في تمردهم على الـEstablishment أو المؤسسة، إلى استعمال السلاح، لأن النظام الأميركي يملكُ آلياتٍ للتعبير عن الاحتجاج وللتغيير من خلال الانتخابات على كل المستويات: من الرئاسة إلى الكونغرس وإلى حكّام الولايات، والسلطات المحلية الدنيا. وهذا لا يعني أن الواصل أو الواصلين للسلطة، على المستويات كافة، يملكون الحقَّ في قلب النظام رأسًا عل عقِب، لكنّ النظام العامّ بهذه الطريقة يستطيع استيعاب الغضب الشعبي، ويلبّي المطالب الأساسية التي جرى تجاهُلُها أو إهمالها بطرائق سلمية. وقد حصل ذلك من قبل في حركة الحقوق المدنية في الستينات، وفي الاحتجاجات على حرب فيتنام في الستينات والسبعينات. بل استطاع استيعاب ما هو أعظم من ذلك في حالة الإنجيليات الجديدة المنفلتة من عقالها على مدى ثلاثة عقودٍ وأكثر.
إنّ هذا الأمر لم يحصل في دول الاضطراب العربي. فقد كانت الأنظمة مسدودةً وليست فيها حياة سياسية معقولة، ولا قنوات للتنفيس والإصغاء في سوريا والعراق وليبيا وغيرها.. وغيرها. وعندما خرجت مظاهراتٌ واحتجاجاتٌ سلميةٌ وغير مسلَّحة قوبلت بالعنف الدامي في كل تلك البلدان، فتطور الأمر إلى ما يشبه الحروب الأهلية، وفي بعض تلك البلدان اختفت السلطات وسادت الميليشيات المسلَّحة الإرهابية وغير الإرهابية. وفي بعضها الآخَر تحولت السلطات إلى ميليشيات مسلَّحة، كما استعانت بميليشيات مسلَّحة أخرى مرتزقة وجيوش من الداخل والخارج، لمقاتلة الخصوم. لقد استعانت السلطة العراقية بالميليشيات الداخلية وبإيران والأميركيين، واستعانت السلطة السورية بالميليشيات (الوطنية)، وبإيران حرسًا ثوريًا وميليشيات متأيرنة، وبجيوش روسيا الاتحادية.
وهل يظنُّ القراء أنّ السلطات في البلدين اتّعظت مما حصل، أو تعلمت شيئًا؟ من ظنّ ذلك فهو مخطئ. فقد قال المالكي رئيس وزراء العراق السابق على مشارف الانتخابات عام 2013 - 2014 إنّ بينه وبين العراقيين المعارضين لنظام حكمه بحورًا من الدم، وسيخوضها إليهم، وهذا كلُّه قبل «داعش». وها هي الميليشيات ومعها الشرطة الاتحادية تُهجّر وتقتل منذ عام 2014 في آمرلي وجرف الصخر وتكريت والمقدادية وعشرات القرى والبلدات. والمقتولون والمهجَّرون معظمهم بالطبع ليسوا من «داعش» الذي انسحب من الفلّوجة والرمادي، لكنّ سكانهما هُجّروا خلال سيطرة الداعشيين، وبعد انسحابهم، وما رجع نصفهم حتى الآن.
وقد قرأتُ قبل أيام تصريحًا لضابطٍ سوري كبير يقول فيه إنّ الرئيس السوري بشار الأسد كان رحيمًا أكثر من اللازم مع المتظاهرين عام 2011، بتأثير من الإعلام، ومن الدول الغربية، ولو فعل وقتها ما فعله والده عام 1982 بحماه لما جرؤ معارضو نظامه على الاستمرار في تحركاتهم!
إنّ هذا هو الدرس الذي استفاده ضابط النظام المسدود مما حصل خلال السنوات الست الماضية في سوريا. بيد أن ما استفاده الرئيس بشار الأسد كان أعظم وأفظع. فقد قال قبل أيام إنّ النسيج الاجتماعي السوري اليوم، هو أفضل بكثير مما كان عليه قبل عدة سنوات. ومن أين تأتي الفضيلة؟ تأتي في نظره من أنّ نحو الـ14 مليونًا من السوريين تهجّروا بالداخل وإلى الخارج: 7 ملايين بالداخل، ومثلهم إلى تركيا والأردن ولبنان ومصر والجزائر والمغرب، وباقي أصقاع الأرض. وكما نعلم، فإنّ منهم نحو المليون لجأوا أو هربوا إلى ألمانيا، وبقية دول الاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا! وما انتهى الأمر إلى هذا الحدّ، فهناك آلاف لا يزالون يتعرضون للتهجير من ضواحي دمشق وحمص، وثلاثمائة ألف من شرق حلب يتعرضون الآن للقتل والتهجير. وجهة نظره أنّ العرب السنَّة الذين تهجَّروا خفّفوا من ثقل ووطأة الكثرة السنية على مناطق «سوريا المفيدة». لقد شاهدنا قبل ثلاثة أيام ميليشيا «حزب الله» تقيم استعراضًا عسكريًا ضخمًا بالقصير السورية التي هجَّر الحزب سكانها وجعلها مركزًا لقواته.
تقول كل الأدبيات، إنّ الحرب الأهلية هي أفظع الحروب. ولا يخرج منها منتصرٌ، بل الكُلُّ مغلوب، وإنّ أهمَّ أسبابها انسدادات الأنظمة السياسية. بيد أن هذا ليس رأْي الميليشيات الإرهابية، ولا رأي الميليشيات الأخرى النظامية، أي الميليشيات المسمَّاة دولاً وأنظمة، إذ إن هؤلاء إنما يريدون أرضًا يقيمون عليها عسكرهم وعساكر الدول من أنصارهم، في غياب أهلها وسكانها الأصليين. أما الحديث عن إمكان التسالُم بين النظام والمجتمع من طريق التعامُل مع الناس باعتبارهم مواطنين «دعوتهم واحدة»، فهي إمكانيةٌ لا يفكّر فيها أحد من هؤلاء. فالشهرة للدواعش، والفعل لهؤلاء. فلا حول ولا قوة إلاّ بالله، ويا للعرب!