د. حسن محمد صندقجي
طبيب سعودي واستشاري قلب للكبار بمركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
TT

تعديل تأثيرات الوراثة على القلب.. أمر ممكن

مهما كانت ظروف الإنسان المحيطة بصحته، يظل لديه كثير من «الأوراق» التي يُمكنه «اللعب بها» للحفاظ على مستوى صحي جيد يُمكنه من العيش حياة مفعمة بالراحة والنشاط. وكثير من الأمراض المزمنة، التي هي في الوقت ذاته مؤثرة بشكل بالغ على راحة الإنسان وقدرته على التمتع بقواه طوال عمره، هي أمراض لها مسببات مرتبطة بنوعية ومكونات نمط الحياة اليومي للإنسان.
وأمراض القلب لها مسببات معروفة، وهي التي يرفع وجودها في حياة المرء من احتمالات خطورة إصابته بها، مثل التدخين وارتفاع ضغط الدم واضطرابات الكولسترول والدهون الثلاثية والإصابة بمرض السكري والسمنة وتدني ممارسة النشاط البدني اليومي. وفي هذه العوامل يُمكن للمرء فعل الكثير لوقاية نفسه من الإصابة بأمراض القلب، كما يُمكنه أيضًا فعل الكثير لوقاية نفسه ومنع حصول مضاعفات وتداعيات أمراض القلب لو أنها أصابته.
ولكن هناك عوامل خطورة كانت دائمًا تُوصف بأنها «غير قابلة للتعديل»، أي لا يملك المرء إزاءها فعل أي شيء للتخفيف منها أو لمنعها من التسبب بالإصابة بأمراض القلب، ومن أشهرها «عامل الوراثة» أو الجينات الوراثية التي يتم خزن شفراتها ضمن الحمض النووي «دي إن إيه» DNA ومعلوم أن احتمالات خطورة الإصابة بأمراض القلب ترتفع عند وجود تاريخ عائلي Family history للإصابة «المبكرّة» بأمراض القلب لدى أحد الأقارب القريبين جدًا في النسب، أي أقرباء من الدرجة الأولى First - Degree Relative، مثل أحد الوالدين أو أحد الإخوة والأخوات.
وللتوضيح، تعتبر الإصابة «المبكرّة» بأمراض القلب لدى أحد الأقارب الذكور القريبين في النسب، أي قبل بلوغ عمر 55 سنة، أو أحد القريبات الإناث القريبات جدًا في النسب، أي قبل بلوغ عمر 65 سنة، «عامل خطورة» (Risk Factor) يرفع من احتمالات الإصابة بالأمراض القلبية. وذلك بخلاف حصول إصابة أحد هؤلاء الأقارب الذكور بعد تجاوز عمر 55 سنة، أو إصابة هؤلاء الأقارب الإناث بعد تجاوز عمر 65 سنة، لأن إصابتهم حينها تعتبر إصابة «غير مبكرّة» ولا تشكل الوراثة آنذاك عامل خطورة للإصابة بالأمراض القلبية.
ويبقى هنا السؤال: هل يستطيع المرء أن يهرب من عامل خطورة صحي محتمل الحصول جدًا، وتحديدًا الوراثة أو التاريخ العائلي، إلى قدر آخر يُخفف من احتمالات تسبب عامل الخطورة هذا بالضرر الصحي على القلب لديه؟ الجواب باختصار: بلى، يستطيع. وتطرح ذلك دراسة الباحثين من مركز أبحاث الجينات البشرية Center for Human Genetic Research بمستشفى ماساتشوستس، وهي الدراسة المنشورة ضمن عدد 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي من مجلة «نيو إنغلاند» الطبية New England Journal of Medicine، التي عُرضت أيضًا في اليوم ذاته ضمن فعاليات المؤتمر السنوي لرابطة القلب الأميركية AHA في «نيو أورلينز» بولاية لويزيانا الأميركية.
وأفاد فيها الباحثون بأن بالحرص على ممارسة الرياضة اليومية وتنشيط الجسم للابتعاد عن حياة الكسل والخمول البدني، وبتناول الأطعمة الصحية في مكوناتها وطريقة إعدادها وكيفية تناولها، يُمكن للمرء أن يُخفف بشكل واضح ومؤثر في تأثيرات عامل الوراثة لجهة احتمالات خطورة إصابته بالأمراض القلبية.
وأفاد الباحثون بأن المرء لو أصيب أحد أقاربه من الدرجة الأولى بأمراض الشرايين القلبية، فإن بإمكانه المبادرة إلى اتخاذ عدد من الخطوات الصحية التي يواجه بها هذه الظروف الوراثية التي تجعله أكثر عُرضة لاحتمالات الإصابة بأمراض القلب. وأوضحوا أن خفض خطورة الوراثة لجهة التسبب بالإصابة بنوبات الجلطة القلبية Heart Attack أمر ممكن بعيش الحياة اليومية وفق نمط ونهج صحي معتدل وليس صارمًا، أي ممارسة الرياضة البدنية وتناول الطعام الصحي والحفاظ على رشاقة وزن الجسم والامتناع عن التدخين.
وتحديدًا أفاد الدكتور سيكار كاثريسان، الباحث الرئيسي في الدراسة ومدير مركز أبحاث الجينات البشرية، بأنه حتى «فعل القليل» في هذه المجالات لعيش الحياة وفق نهج صحي يُقلل بمقدار النصف من التأثيرات القوية للوراثة في احتمالات خطورة الإصابة بالأمراض القلبية. وأضاف أن العكس صحيح أيضًا بالمقابل، ذلك أن الأشخاص الذين يُولدون وهم لا يحملون تلك الجينات التي تختزن رفع احتمالات خطورة إصابتهم بأمراض القلب، أي الذين لديهم هبة الحظ والنصيب الصحي الجيد، قد يُفسدون على أنفسهم ذلك الحظ والنصيب عبر عدم اهتمامهم بعيش الحياة اليومية وفق النمط والنهج الصحي. وقال: «بالنسبة للإصابة بنوبة الجلطة القلبية، فإن الحمض النووي للإنسان ليس هو قدره ومصيره، فالمرء لديه القدرة على فعل ما يُبعد عنه خطورة الإصابة بنوبة الجلطة القلبية».
وراجع الباحثون في دراستهم حالة أكثر من 55 ألف شخص شملتهم أربع دراسات طبية سابقة، وتم من خلال ذلك استخدام لوحة تحتوي على 50 من متغيرات الجينات التي ثبت في دراسات سابقة أنها مرتبطة برفع احتمالات خطورة الإصابة بنوبة الجلطة القلبية، وذلك بغية تحليل المخاطر الجينية لكل شخص في احتمالات خطورة الإصابة بنوبة الجلطة القلبية، وتمت مقارنة تأثيراتها مع عوامل سلوكية في نمط عيش الحياة اليومية، وهي التدخين ووزن الجسم والغذاء اليومي وممارسة الرياضة.
وأفاد الدكتور كاثريسان بأنه ليس المطلوب من الإنسان فعل الكثير ولم نشترط في دراستنا أن يُمارس الإنسان تطبيقًا صارمًا للإرشادات الطبية، بل عدم التدخين وحفظ الوزن بعيدًا عن السمنة وممارسة الرياضة على الأقل مرة في الأسبوع واتباع نصف إرشادات رابطة القلب الأميركية في شأن التغذية الصحية هو ما كُنا نتابع تأثيراته في الدراسة. وأضاف أنه مع هذا النمط «غير الصارم» في عيش الحياة اليومية بطريقة صحية وجدنا أن المرء يُمكنه تخفيف تأثيرات عامل الوراثة في خفض احتمالات خطورة إصابته بنوبة الجلطة القلبية.
والواقع أن ما يستطيع المرء فعله لحفظ صحته وإبعاد شبح الأمراض عنه هي أمور بسيطة ويسيرة وقابلة للتطبيق وغير مؤثرة بشكل بالغ على عمل الإنسان أو راحته أو استمتاعه بالأنشطة المتنوعة في الحياة اليومية، وتتمثل في الاهتمام الواعي والمفيد بصحته.