إميل أمين
كاتب مصري
TT

ديمقراطيات مخطوفة وليبراليات مأزومة

قبل وفاته أخيرًا تحدث شاعر فرنسا الكبير إيف بونفوا إلى مجلة «Monde des Religions» الفرنسية عن حال العالم، فرأى أنه يقترب من الانهيار، وبات يسيطر عليه شعور القيامة الغامضة، التي تتمثل في تهدم المناخ وارتكاس الأراضي وتفوق السكان على المصادر في الماء مثلاً، والانتشار الفوضوي للصور غير المسؤولة، التي تربك العقل وتخنق الضمير وتشل الحركة، مما سيجعل البشرية قبل نهاية القرن الحادي والعشرين تكاد تفقد مكانها على الأرض وتتلف في حروب.
هل للصواب نصيب من حديث بونفوا؟
يمكن للمرء أن يزيد من الشعر أبياتًا وليس بيتًا واحدًا، عن حال النظام العالمي، ما بعد النيوليبرالي، وما بعد تصور هلامي عن نهاية التاريخ، والنتيجة صدمة كبيرة بين التفكيك والتفخيخ؛ تفكيك للتجميع الذي عمل عليه الكثيرون لعقود طويلة، والمثال القريب أحوال الاتحاد الأوروبي، حيث بدت على السطح واضحة جدًا أولى بوادر انفكاك عقد البيت القومي الأوروبي الكبير، الذي بات يجد صعوبة في أداء مهامه السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، التي قام من أجلها، وتفخيخ للعالم من خلال صحوة الهويات القاتلة، مما قاد إلى عالم مليء بالإرهاب، ويخشى المرء أن يكون الأسوأ لم يأت بعد.
هل كانت أحلام الهيمنة وآيديولوجية القطب الواحد الغربي، لا سيما الأميركي، هي السبب في الكارثة المستقبلية للإنسانية، التي أدت إلى حالة التدهور غير المسبوق لأحوال ملايين البشر عطفًا على احتمالات اقتراب الغرب من نهايته إن مضى على هذا الدرب قدمًا؟
لا نريد إجابات قاطعة، إذ نثير تساؤلات حائرة ونطلب من ورائها إثارة الفكر، فالبشرية في حاجة إلى سفينة نوح بالمعنى المجازي لإنقاذها من موارد التهلكة التي تتملك روحها هذه الأيام.
بعد نهاية زمن الاتحاد السوفياتي بحلول نهايات ثمانينات القرن الماضي، خيل للولايات المتحدة الأميركية أنها باتت محرك العالم الجديد، وأنها روما العصر، مالئة الدنيا وشاغلة الناس، وقد بلور المحافظون الجدد وثيقة شهيرة (PNAC)، لصبغ العالم بصبغة أميركية مطلقة، من خلال نشر الديمقراطيات ولو على أسنة الرماح، والترويج لليبرالية والديمقراطية الغناء وحرية الأسواق، حتى لو أضرت ملايين البشر.
وقد وصلت الرؤية الشمولية الغربية إلى حد اعتبر فيه فرانسيس فوكاياما أن التاريخ قد وصل إلى نهايته، وأن الإنسانية لن تجود بأفضل مما قدمته بحسب النموذج الغربي.
على أن نظرة سريعة لمراجعات غربية وأميركية تحديدًا صدرت حديثًا، تؤكد أن هناك حالة إدراك للكارثة التي تحدث عنها بونفوا سلفًا.
خذ إليك ما أشارت إليه مجلة «فورين بوليسي» الأميركية في عددها الخاص بشهر يونيو (حزيران) الماضي تحت عنوان «انهيار النظام العالمي المعتدل».
القراءة الرصينة التي تقدمها المجلة الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، أحد أهم مراكز الأبحاث الأميركية التي تزخم صانع القرار الأميركي، تقدم نقدًا آنيًا واعيًا لأحوال الليبرالية والمآسي التي جرتها على العالم.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن مناقشة ما جاء في ذلك المقال الرصين، غير أنه بحال يراجع أخطاء الليبراليين الذين أسرفوا في الحديث عن مبادئها واتجاهاتها، ونسوا أو تناسوا هويات الأمم، وروح الشعوب. والشاهد أن الترويج لليبرالية، وهذا ما فات منظري الغرب يتجاوز المؤسسات الديمقراطية الرسمية، بل ويعتمد على التزام واسع وعميق بالقيم الأساسية للمجتمعات الليبرالية، وفي مقدمتها التسامح، والمواطنة، والإخاء والعدالة، وهي معايير لا يمكن فرضها بالطائرات من دون طيار، أو بالجيوش الجرارة، وأدوات العنف الأخرى، ولهذا باتت صحوة القوميات، وعودة النعرات واقع حال يغني عن السؤال.
لن نتحدث عما جرته الرؤية الأميركية المنحولة بشأن دمقرطة العالم العربي والشرق الأوسط، والمصائر القاتلة التي وصلت إليها المنطقة من ورائها، بل الحديث هنا عن الديمقراطيات الغربية التي تكاد تنتهي عندما تكون ديمقراطية جدًا، بحسب «نيويورك تايمز»، التي تكاد تقود مرشحًا أميركيًا يحمل أفكارًا فاشية لقيادة الدولة الديمقراطية التي تتسيد العالم حتى الساعة.
الديمقراطية الغربية ذاتها اليوم معرضة للاختطاف من قبل المرشحين الذين تفرضهم أموال المتبرعين وتسوقهم الإعلانات للناخبين، وهؤلاء التزامهم بالمبادئ الليبرالية سطحي في أحسن الأحوال، ولهذا يستغلون مبادئ المجتمع المنفتح لحشد تأييد شعبي، بالضبط كما فعل هتلر وموسوليني في ثلاثينات القرن الماضي، ولا يوجد شيء في النظام الديمقراطي يمكنه أن يطمئن فشل تلك الجهود بشكل دائم.

هل القصة أعمق وأعقد من نظام عالمي قديم يترنح وجديد لا يزال يتشكل في الرحم؟
قد يكون المشهد العالمي، الحالي يحمل إرهاصات لنهاية تجربة الغرب، وبداية لنماذج شرقية آسيوية تتراءى للعالم على خجل، ولا تتعجل الهيمنة أو السيطرة كما في النموذج الأميركي، وهذه قصة أخرى.
وفي كل الأحوال يقارب كثير من المحللين اليوم انحدار الغرب بانحدار روما القديمة، ويتذكرون العصور الأخيرة للثقافة الكلاسيكية بأنها فظة، وعلمية، وعالمية، وتتلمس طريقها للإيمان.. العالم إلى أين يمضي؟