إميل أمين
كاتب مصري
TT

هيلاري واستحقاقات «بريد ـ غيت»

في الساعة الحادية عشرة من عمر حملتها الانتخابية الطويل، الشائك والمثير، تلقت هيلاري كلينتون ضربة بمثابة صاعقة، قبل أن تحط طائرتها في «أيوا» بدقائق معدودات.
الصدمة لم تربك هيلاري وحملتها فقط، بل أربكت الجمهوريين من قبلهم، وأعطت قبلة الحياة من جديد لدونالد ترامب، المرشح الذي تركه قادة الحزب على قارعة الطريق، وجلّ همهم ألا يخسروا الأغلبية في الكونغرس.
ما الذي بلغ علم جيمس كومي ليعيد من جديد فتح ملف البريد الإلكتروني لهيلاري؟
في يوليو (تموز) الماضي رأى كبير البصاصين الأميركيين في الداخل السيد كومي، أن هيلاري ربما أهملت، لكنها لم تتعمد خرق القانون، أما الآن ففي الأفق روايتان.
الرواية تتصل بهوما عابدي، كبيرة مساعدي كلينتون وأمينة سرها، وقد أشارت إليها صحيفة التابلويد البريطانية «ديلي ميل» وفي الحقيقة هي أعمق من صدفة كشفت عن آلاف الرسائل الجديدة لكلينتون، جاءت بطريق غير مباشر أثناء فض الاشتباك مع خطيئة زوجها عضو الكونغرس السابق أنتوني وينر، وتحرشه بالقاصرات.
هوما عابدي هي حلقة الوصل الأولى والرئيسية بين هيلاري ورجالات ثورات الربيع العربي من أنصار ودعاة الإسلام السياسي، لا سيما جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهي صاحبة نفس فكر «الإخوان» في إزالة الحدود بين الدول وإقامة الأمة، الأمر الذي يطرح تساؤلات عميقة عن تلك الرسائل، وهل أراد كومي أن يبرئ ساحته، قبل أن ينادى من على السطوح بما كان يقال في المخادع؟
سياقات الأحداث التي جرت بين عابدي وطلاقها السريع والعاجل من زوجها وينر في أغسطس (آب) الماضي يفتح مجالاً واسعًا للشكوك في كل الأحوال، وربما يستلزم الأمر مكاشفة ومصارحة سريعتين للأميركيين.
الرواية الثانية تتصل بمصدر حكومي يؤكد على أن الرسائل المذكورة عُثر عليها على خادم ثانٍ خلال تحقيق منفصل. وحال تحليل هذا الحديث، ندرك أن مكتب التحقيقات الفيدرالي لم يغلق الملف الخاص بهيلاري وأزمة بريدها الإلكتروني. والمعنى أن الأميركيين راهنوا على مرشحة كانت ولا تزال في نظر جهات التحقيق الفيدرالية مشتبها فيها، ما يطرح علامات تساؤل جوهرية من عينة: ما شكل تلك المرشحة أمام الأميركيين، إذا كانت رهن تحقيق جنائي تجريه أجهزة الدولة بشأنها، وأي مستقبل ينتظرها؟
حكمًا لم يكن كومي ليقدم على هذه الخطوة المزلزلة لأركان الديمقراطيين في البلاد وقبل عشرة أيام من موعد الاقتراع، لو لم يكن لديه مبررات وذرائع قوية، وإلا فإنه يراهن لا على مستقبله المهني فقط، بل على مستقبل الجهاز الذي يترأسه بأكمله.
يستطيع الديمقراطيون أن يحاججوا بسرعة وقوة وشراسة من أجل ابتكار إجابات مقنعة عن أسئلة تشغل عقل الناخبين الأميركيين، بشأن أزمة بريد هيلاري، غير أن السبل تقصر بهم حال التذكير بتاريخ هيلاري، ذلك أن أحدهم لا يستطيع إنكار الدور الذي لعبته بوصفها عميلاً سريًا لإدوارد كيندي خلال عملية عزل نيكسون من الرئاسة، ثم إن أغلبهم لا ينسون كيف وضعت نظامًا سريًا في البيت الأبيض لمراقبة تحركات زوجها، وكشف نزواته. كما أن العالمين ببواطن البيت الأبيض يدركون كيف أنها كانت سببًا مباشرًا في انتحار المحامي فنسنت فورستر، مع ما يدور من شائعات حول علاقة ما بينهما. إشكاليات هيلاري في الواقع تتجاوز بريدها الإلكتروني، حتى لو تم انتخابها.
هل هذه النازلة هدية من السماء لترامب؟ الرجل سيحاول جاهدًا في براغماتية تقليدية الظهور بمظهر الفارس النبيل المطارد للمتهمة، والمتوعد بسجنها على جرائمها، غير أن الثوب لا يلائمه ولا يناسبه، فمنزلقات الإثم الموحول فيه، لا تجعل منه توماس جيفرسون، مع الاعتذار للأخير، والفرق الشاسع في المقارنة.
أميركا اليوم ما بين «بريد - غيت» هيلاري و«نساء - غيت» ترامب، في مأزق أخلاقي حقيقي، الأمر الذي دعا هنري كيسنجر وجورج شولتز وزيري الخارجية السابقين، لأن يعلنا في بيان مشترك لهما أنهما لا يدعمان كلا من هيلاري وترامب، باعتبارهما مرشحين لانتخابات الرئاسة، بل سيركزان جهودهما خلال الفترة المقبلة على العمل في قواعد الحزبين الجمهوري والديمقراطي لتحسين صورة الأميركيين في العالم.
الرئاسة الأميركية اليوم في حاجة إلى مرشح يمتلك تفكير الفلاسفة، ودهاء السياسيين.. مرشح قادر على قيادة الأمة في وقت الأزمة.. في زمن التحزبات الشرسة، لمرشح ينتشلها من وحدة الصراع الثقافي والعرقي التي تمر بها، ويجنبها المخاطر الاقتصادية التي تقترب منها من جديد، ويباعد بينها وبين المواجهة النووية الرابضة لها خلف الباب.. مرشح يجسد الكفاح من أجل قيادة أمة لتحقيق العظمة في عالم صعب ومعقد. ما أبعد هيلاري وترامب عن «الرئيس الحاجة»، «الرئيس الضرورة»، الذي ينقذ أميركا الأنتروبية من الأهوال الآنية.