سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

رغيف سياسي

نجح السياسيون اللبنانيون مرة جديدة في النجاة بأنفسهم وسلطاتهم المكتسبة. كلام الرئيس سعد الحريري بأنه أنقذ البلاد من الضياع، ومن حرب أهلية كانت محتملة، فيما لو بقيت سدة الرئاسة فارغة، ولم يوافق على ترشيح الجنرال ميشال عون للرئاسة، أمر صحيح، وفيه نظر. سنتان ونصف السنة من الفراغ، وشلل حكومي قاتل، مع مجلس نيابي يمدد لنفسه، ليس مما يسهّل حياة العباد. لكن العهد الجديد الذي يبدأ بانتخاب ميشال عون، رغم جرعة التفاؤل والحيوية التي يمنحها للبنان، لن يطول به المطاف، ليعود الجميع إلى نقطة الصفر، أي استمرار الفوضى والخلافات على المغانم.
التشاؤم لا يأتي من عبث، فمنذ بدء الإعلان عن الانفراج الرئاسي واللقاءات المكثفة التي باتت تجمع الأطراف المتباعدة، كل الكلام حول تقاسم السلطات، مع غياب كلي، حتى ولو شكليًا، لأي طرح لمشاريع أو رؤى إصلاحية، يحملها الراغبون في الوصول إلى الكراسي.
لم يكلف أي من الطامحين لرئاسة أو وزارة نفسه أن يشرح للناس ما يستطيع إنجازه. لا يخفي السياسيون أنفسهم أن مفاوضاتهم أغفلت كليًا كل ما له علاقة بمطالب المواطنين أو حاجاتهم، وأن التركيز هو على حلّ خلافاتهم فيما بينهم. لم يعد عيبًا أن يقال إن قانون الستين الانتخابي البائد والعفن، قد يكون قدر لبنان من جديد، القدر المحبوب من جلّ السياسيين. وبالتالي فإن الموجودين في السلطة سيعيدون انتخاب أنفسهم باللوائح والمحادل المجهزة سلفًا، وليس على الناخب سوى الذهاب إلى الصندوق لإعادة اختيار ذات الوجوه التي سئم عقمها.
الاستشراس السلطوي استفزازي، وباستثناء المناصرين الحزبيين المنخرطين، يصعب أن تقرأ على وجوه اللبنانيين تصديقًا بأن شيئًا ما سيتغير، بصرف النظر عن أسماء الواصلين إلى مراكز القرار، طالما أن كل ما يسعون إليه هو تبادل الأدوار، لحجز أماكنهم في الصفوف الأمامية.
الصفقات السياسية المحكمة التي عقدت بين رؤساء الطوائف التقليديين، ستقف سدًا منيعًا أمام أي اختراق لمستقلين أو راغبين في التغيير، قد تسوّل لهم أنفسهم المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة. أي أن بوادر الأمل أحبطت طالما أن أي احتجاج مدني بات سيجابه ليس فقط من فريق واحد، بل من جميع الأفرقاء السياسيين، بعد أن أصبحوا يدًا واحدة فيما يخص الحفاظ على النظام القائم مهما كانت عوراته كبيرة وبغيضة.
تشاء المصادفة أن يبصر النور، في هذا الوقت تحديدا، كتاب يتحدث عن «بعثة إيرفد» الشهيرة التي كلفها الرئيس فؤاد شهاب عام 1959 بوضع خطة إنمائية للخروج بلبنان من مجاهل العالم الثالث، وبوضع برنامج علمي لإرساء دولة المؤسسات. كتاب موجع، لأنه يكشف كم أن الحلول يمكن أن تكون سهلة وكم هي واضحة، لكنها أجهضت. ولا يزال العائق، من حينها، هو تكاتف المستفيدين ضد أي تغيير، مخافة فقدان بعض مكتسباتهم. المؤلف جبرائيل يونس الذي كان أحد المشاركين في العمل يومها، يقول «إن المسؤولين اللبنانيين لم يقتنعوا حتى هذا التاريخ بجدوى التخطيط العلمي أو أنهم لا يرغبون فيه لأنه يتعارض مع مصالحهم الآنية الضيقة. فالتنمية بالنسبة إليهم تسميات يطلقونها على بعض الإدارات والمشاريع، وتعابير يرددونها في البيانات الحكومية وتصاريحهم، بينما التنمية هي شيء آخر مختلف كل الاختلاف».
لبنان بلد يسير بلا رؤية، والطاقم الجديد القديم، الممتدة عهوده لعقود خلت، مسؤول عن غياب التخطيط الذي تحتاجه أي دولة للوصول إلى برّ الأمان. سيتسلم ميشال عون رئاسة بلد بلا كهرباء، ولا ماء، وإنترنت شحيحة، وأنهار وبحار ملوثة، وشبكة طرق يعوزها الكثير من الجهد، ومزاريب سرقة وفساد تحتاج صرامة فائقة، وقدرة على رفع الغطاء ومحاسبة المختلسين ومحاكمتهم، سيتسلم بلدًا يعوم بنفاياته وديونه وكساده وبطالة أبنائه.
السلطة من أجل السلطة، مع العجز عن مواجهة أطنان الكوارث العالقة، ستفضي بالجميع إلى طريق مسدود. الربيع العربي الدموي، دروسه يفترض أن تكون مفيدة. ليس المطلوب حكمًا يبقى على بلاد كل ما فيها متسيب ومشلول، مع شبح نظام لا يبتغي غير تسيير الأعمال بما تيسر. وهو ما يبدو أنه النهج المتبع حتى اللحظة.
أول علامات التغيير عند تشكيل الحكومة، يفترض أن يلحظ بعودة وزارة التصميم أو التخطيط إلى الوجود، كي تضع رسمًا شاملاً ودراسات دقيقة لكيفية هيكلة عمل الوزارات والمؤسسات الرسمية، التي باتت صلاحياتها تتضارب وتتداخل، حتى تشل بعضها البعض. النظر في أمر الصناديق والمجالس والهيئات، التي استحدثت بعد الحرب بالتوازي مع الوزارات والتي تحولت إلى عناوين للهدر والإفلات من المراقبة.
الحاجة ملحة لتفعيل مديرية الإحصاء والدراسات، فلولا ما تقوم به الهيئات الدولية من أبحاث وما تقدمه من أرقام، يكاد لبنان كدولة، يعيش كما القبائل البدائية التي تنتظر مطر السماء وهبوب الرياح، وكرم الأرض، والمبادرات الفردية لأبنائه الذين فاقوا الدولة مهارة ونشاطًا وإنتاجًا.
يقول الرئيس سعد الحريري: «لا يستطيع المواطن أن يذهب إلى الفران، ويقول له: أعطني رغيف سياسة». ونضيف: لا يستطيع المواطن أيضًا أن ينتظر عشرات العقود الإضافية وهو يتفرج على ساسته يقتسمون ثرواته وجهده، وأحلامه ويهجرون أبناءه. الوقت ينفد، ولا شيء، لسوء الحظ، يدعو للتفاؤل. التعويل على شخص كما يحلو لبعض اللبنانيين أن يفعلوا لن ينقذ البلاد. لعلها الفرصة الأخيرة، للطاقم التقليدي الحاكم، فإما ينفض غباره بنفسه، بذات الحنكة التي يعمل بها ليتشبث بكراسيه، وإما أنه سيرى الصبر ينفد، بعد أن بلغ الفقر بالناس دركًا مرعبًا.