د. حسن محمد صندقجي
طبيب سعودي واستشاري قلب للكبار بمركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
TT

المريض.. لاعب أساسي

ضمن فريق العمل الطبي لـ«التغلب على المرض»، لا تزال ثمة ضبابية لدى كثير من المرضى حول دورهم في اتقاء الإصابة بالمرض، وحول دورهم في معالجة المرض بعد الإصابة به. ومنشأ هذه الضبابية متشعب جدًا، ذلك أن ثمة عوامل تتعلق بالتكوين النفسي لتعامل المريض مع مرضه، وهي عوامل ذات أصول اجتماعية وبيئية، وعوامل تتعلق بتكوين نظرة بعض الناس الأصحاء وبعض المرضى إلى دور الطبيب في تحقيق المعالجة الفاعلة للمرض حال الإصابة به أو دوره في وقاية عموم الأصحاء من الإصابة به. كما أن هناك عوامل تتعلق بنظرة الطبيب إلى مريضه وبنظرته إلى كيفية معالجة المريض وكيفية التعامل معه حال معالجته.
ولأن الجميع؛ مرضى وأطباء، متفقون على أن الطب «يتطور» بشكل مذهل، فإن من المنطقي أن تنشأ تصورات لدى الأطباء عن دورهم «المهم» في معالجة الأمراض وفق «أحدث» ما تم التوصل إليه، ومن المنطقي أيضًا، وتلقائيًا، أن يتصور المريض أن بإمكان الأطباء «فعل الكثير» لمعالجته، مما لم يكن متوفرًا سابقًا، وأن عليه فقط تلقي تلك المعالجات «الحديثة».
ولكن يبقى السؤال: هل صحيح أن الأمور كذلك من ناحية الأدوار، وهل صحيحة تلك التصورات من طرف الأطباء ومن طرف المرضى؟
الإجابة الواقعية وباختصار هي: على الرغم من التطور الطبي «المذهل»، ورغم كل التقنيات الحديثة في المعالجات الطبية، فإن المريض يظل لاعبا أساسيا ضمن فريق المعالجة الطبية؛ في عملية اتخاذ القرار حول نوعية المعالجة، وفي عملية الحفاظ على صحته بعد مغادرته المستشفى، ويظل كثير من الوسائل العلاجية الحديثة خاضعا وبشكل متكرر للمراجعات الطبية لتقييم نتائج تطبيقها على المرضى. ويظل عدم تفهم هاتين الحقيقتين عاملاً يُضعف من الجدوى لتطبيق كثير من التطورات العلاجية.
دعونا نأخذ طرق معالجة أمراض شرايين القلب مثالا. ما من شك في أن أمراض القلب تشهد تطورات في المعالجة تفوق جميع فروع الطب الأخرى، وهو أمر منطقي، لأن أمراض القلب، ووفق نتائج جميع الإحصاءات الطبية العالمية، لا تزال السبب الرئيسي للوفيات في العالم، ولأن التكاليف المادية لمعالجة أمراض القلب لا تزال هي الأعلى عالميًا، وهما ما يفرض بالتالي ضرورة تطور وسائل المعالجة والوقاية.
وفي شأن أمراض الشرايين القلبية، لا تزال تضيقات الشرايين تلك، بفعل ترسبات الكولسترول والدهون وعمليات الالتهابات في تلك التضيقات، هي السبب الرئيسي لأمراض الشرايين القلبية، وهي التي تُؤدي؛ إما إلى الإصابة بـ«الذبحة الصدرية» أو «نوبة الجلطة القلبية»، بكل التداعيات والمضاعفات المهددة لسلامة الحياة والمتسببة بدرجات متفاوتة من الإعاقات.
ودون الحديث عن التضيقات الشريانية غير الشديدة وغير المؤثرة على صحة وسلامة المريض، فإن معالجة التضيقات الشديدة، أو المؤثرة على صحة وسلامة المريض، تسلك 3 طرق. وهي: إما طريقة «العلاج التدخلي»، PCI، أي توسيع التضيق من خلال عملية القسطرة وتثبيت دعامة داخلية تحمي من عودة نشوء الضيق الداخلي فيه، وإما طريقة «العلاج الجراحي»،CABG ، التي تتم بإجراء عملية جراحية في القلب لزراعة شرايين أو أوردة تتخطى مناطق الضيق وتعيد تدفق الدم إلى عضلة القلب، وإما الطريقة الثالثة، حينما لا يكون من الممكن إجراء العلاج التدخلي أو العلاج الجراحي، وهي طريقة «المعالجة الدوائية» لدعم الحالة الصحية للمريض وتخفيف معاناته ما أمكن.
ومن أجل خدمة علاجية أقل إيلامًا، وأقل إرهاقًا، وأقل تطلبًا للبقاء في المستشفى فترة زمنية أطول، وأقل تعريضًا للمريض للتخدير.. ولغيرها من الأسباب، برزت وسيلة «العلاج التدخلي» بالقسطرة بصفتها معالجة منافسة للعملية الجراحية. وتطورت خلال السنوات القليلة الماضية تلك الوسيلة في جوانب شتى.
وضمن عدد 24 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي لمجلة «الدورة الدموية» Circulation، الصادرة عن «رابطة القلب الأميركية» AHA، عرض الباحثون من مستشفى بريسبيتيريان وجامعة كولومبيا في نيويورك نتائج مراجعتهم ومتابعتهم لكل من المعالجة الجراحية والمعالجة التدخلية، وكان عنوان الدراسة: «جراحة التخطي لشريان القلب مقابل العلاج التدخلي عبر الجلد للشرايين القلبية: منظور سريري» والغاية منها متابعة أثر الالتزام بالعلاج الطبي على نتائج المقارنة بين جدوى نوعي المعالجة.
وفي دراستهم المقارنة، تابع الباحثون لمدة سنة ونصف 973 مريضا تم إجراء العملية لهم، و2255 مريضا خضعوا للعلاج التدخلي بالقسطرة لفتح أو توسيع تضيقات الشرايين. وتضمنت قائمة الأدوية: أدوية خفض الكولسترول من فئة ستاتين، وأدوية سيولة الدم، وأدوية محاصرات البيتا.
ولاحظ الباحثون في نتائج دراستهم أن حرص المرضى على تناول الأدوية، كما تم توجيهم بذلك من الأطباء، بإمكانه أن يرفع من معدلات احتمالات البقاء على قيد الحياة بعد تلقي المعالجة التدخلية أو المعالجة الجراحية لأمراض شرايين القلب، وتحديدًا احتمالات البقاء على قيد الحياة ودون مضاعفات أو انتكاسات لدى المرضى الحريصين على تناول الأدوية، وفق توجيهات الأطباء لهم، كانت بمقدار الضعف مقارنة بتلك الاحتمالات لدى المرضى الذين لم يلتزموا بذلك. وعلى وجه الخصوص دواء الأسبرين ودواء خفض الكولسترول.
كما أن الحرص على تناول الأدوية كان عاملاً في جعل العلاج الجراحي ليس أفضل من العلاج التدخلي، أي إن تناول المريض الدواء رفع من فاعلية وفائدة تلقي المعالجة التدخلية عند مقارنتها بالعلاج الجراحي، والعكس صحيح، فإن عدم الالتزام بتناول الأدوية جعل العملية الجراحية أفضل على المدى البعيد من العلاج التدخلي. ولذا علق الدكتور بول كيرلانسكي، الباحث الرئيسي في الدراسة وجراح القلب، بالقول: «الالتزام بتناول الأدوية له تأثيرات دراماتيكية على المدى البعيد في النتائج المستقبلية لكل من العلاج الجراحي والعلاج التدخلي لشرايين القلب، وهذا التأثير الإيجابي للحرص على تناول الأدوية جعل العلاج التدخلي منافسًا للعلاج الجراحي». وأضاف بقول عبارة مهمة جدًا في المرحلة الحالية من تطور اللجوء الطبي إلى العلاج التدخلي وتسويقه بوصفه منافسا للعلاج الجراحي، بالقول: «علينا أن نسأل بجدية: هل مرضانا يُرحبون أو لا يُرحبون بالالتزام بتناول الأدوية وفق المواعيد المطلوبة منهم من أجل معالجتهم تدخليًا بالقسطرة وتجنيبهم الخضوع للمعالجة الجراحية؟».

* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]