نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

الغبار.. لا يصلح قرينة

لست بحاجة لأن أسرد بالأرقام ما تتمتع به إسرائيل من قوة عسكرية واقتصادية وتحالفية، فعلى هذا الصعيد لديها فائض قوة لا يزيد فقط عن حاجات الصراع مع الفلسطينيين، بل خصوصًا في زمن الربيع العربي يزيد على الحاجة على مستوى الشرق الأوسط.
الغريب في أمر فائض القوة هذا أنه لا يوفر طمأنينة للإسرائيليين، ولا ثقة بالنفس حين تضطر الدولة العبرية للاشتباك مع أي جهة سياسيًا وفكريًا وثقافيًا.
فائض القوة لم يمنع إسرائيل من فتح معركة في داخلها لمجرد قراءة بيت شعر لمحمود درويش في مسرحية، مثلما لم يمنع رعبًا لمجرد رؤية سكين في يد سيدة فلسطينية أو طالب مدرسة.
وإذا ما توسعنا قليلاً، وراقبنا رد فعل بنيامين نتنياهو على قرارات اليونيسكو الأخيرة التي نفت الصلة التاريخية والمادية بين اليهود والقدس، وتحديدًا المسجد الأقصى، فإننا لا نلمس مجرد رد فعل على قرار، بل لمسنا جنونًا عقليًا ولغويًا وسلوكيًا، لا يأتي بمثله غير المتشككين بقوتهم وروايتهم التي تشكل الجذر التاريخي والعقائدي لمشروعهم السياسي.
ما سبب ذلك؟ ومن المسؤول عن ذلك؟ إنه نتنياهو أولاً ومعه شركاؤه في الحكومة، ذلك أن رئيس وزراء الدولة العبرية، صاحب الرقم القياسي في طول المدة، اعتمد منهجًا قوامه التخويف من خطر ماحق يتربص بإسرائيل من الداخل والخارج، ولا مناص من الاعتماد على نتنياهو لدرء هذا الخطر، وإنقاذ الإسرائيليين من ألف «هولوكوست» تقف خلف أبوابهم.
وكمن يكذب كثيرًا ليصدق نفسه، فقد صار الخوف من كل شيء وأي شيء هو السمة المميزة ليس لطبقة الحكم في إسرائيل، بل ولكل إسرائيلي يعيش على أرض الدولة العبرية.
واقع نفسي كهذا، وثقافة فرضها الولع بالبقاء في الحكم أطول مدة ممكنة، لا ينفع معها ترسانة سلاح لا تمتلك مثلها وبحداثتها إلا دول عظمى.
لفت نظري، وهذا ما دفعني للكتابة حول هذا الأمر، أن نتنياهو الذي وقف أمام الأمم المتحدة متباهيًا بتقزيم البندورة، بوصفه إنجازًا حضاريًّا إنسانيًّا كونيًّا، ويتباهى كذلك بقيادته لإسرائيل والولايات المتحدة معًا، بوصف إسرائيل الدولة الديمقراطية النادرة، أو الواحة الخضراء في الشرق الأوسط والعالم، والذي حمّل الأفارقة جميل نقلهم من الظلمات إلى النور، والذي طلب من الفلسطينيين أن يشكروا الله على نعمة الاحتلال والاستيطان وتدمير غزة ثلاث مرات على الأقل، نتنياهو هذا فقد صوابه تمامًا، فقد أعلن هذا العبقري الاستثنائي أنه سيمسك المعول، ويحفر تحت الأقصى لجمع غبار الهيكل، علّه يجد قرينة مادية يقول فيها لليونيسكو: خذوا برهاني، وتراجعوا عن براهينكم.
حقًا إن حاكم أميركا وإسرائيل تفوّق على ترامب في الجنون، ليس فقط لأنه سيرتدي بدلة العمال فوق بدلة رئيس الوزراء، بل لأنه يعتقد أن العالم سيصغي إليه حين يقدم له الغبار كقرينة.