مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

لا تنفذون إلا (بسلطان)

من هواياتي جمع المطبوعات القديمة بقدر ما أستطيع، وأقضي أحيانًا الساعات في قراءتها، والتأمل في حياة مجتمعات لم أعايشها، وكثيرًا ما أخرج بانطباعات ومقارنات وفوائد وعبر وإرهاصات بل واضطرابات لها أول ولها آخر.
وما قرأته في مجلة الهلال المصرية، في عدد سبتمبر (أيلول) من عام (1894) الذي هو أمامي الآن، الأخبار التالية التي مضى عليها ما يقرب من (122) عامًا:
جاء في التقارير الطبية الأخيرة والمؤكدة، أن عدد المجانين آخذ في الازدياد في الولايات المتحدة الأميركية - انتهى
الحقيقة أنني توقفت مليًا أمام هذا التقرير أو الخبر، وأخذت أتساءل بيني وبين نفسي عن سبب زيادة المجانين في ذلك الوقت بالذات، وهي التي خرجت من الحرب الأهلية بمكاسب الديمقراطية، وها هو (والت ويتمان) يتغنى بشعر اعتبره النقاد نسمة من الهواء المنعش في الشعر الأميركي ونشر ديوانه (أوراق العشب)، وفي ذلك الوقت خرج العبقري (مارك توين) بأدبه الساخر الذي ينضح بحب الحياة، وتجلى ذلك في (مغامرات توم سوبر)، وطور (هنري جيمس) فكرة عالمية المضمون في روايته (صورة سيدة).
ولكن قد يكون لازدياد ذلك الجنون أسباب أخرى لا نعرفها - والله اعلم.
وفي ذلك العدد قرأت الخبر التالي:
يجرون المركبات... الآن في بعض مواسم أوروبا بالبخار بدلاً من الخيول وغيرها، وبعض الآلات التي تجر هذه المركبات لها قوة عشرين حصانًا فيمكنها أن تجر قطارًا من المركبات مؤلفًا من عشر مركبات على الأقل - انتهى.
إذن ماذا نقول عن المركبات التي تجرها الآن آلاف الأحصنة، ولا تتوقف عن الزيادة؟!
وهناك تعليق تهكمي كتبه أحد القائمين على المجلة ولم يذكر اسمه ومما جاء فيه:
قرأنا في بعض جرائد إنجلترا طعنًا في الطيارة التي اخترعها بعضهم وهي مركبة تسير في الهواء وقد سماها بعضهم الآلة الشيطانية، لأنها شديدة الخطر على مستعمليها، وقد نشر مخترع تلك الآلة إعلانا يقول فيه: إنه إذا أمد بمبلغ خمسين ألف جنيه فيبني مركبة أخرى يقطع بها خليج المانش قبل مضي سنة واحدة، ولكن جريدة الاختراع سخرت من رأيه وخطأته - انتهى.
مثل هذه المطبوعات الوثائقية تعطينا الواقع الحقيقي المذهل لتقدم الإنسان وسطوته على مقاليد الحرية العاقلة - إن جاز التعبير - فلولا تلك الحرية التي اكتسبها (طوعًا وقسرًا) لما وصل إلى ما وصل إليه.
واليوم هناك مليارات من البشر يسابقون الصوت بالعبور سنويًا من قارة إلى أخرى، وسينفذون مستقبلاً من أقطار السماوات والأرض بسلطان العلم، مثلما بشرهم بذلك رب العالمين.