محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

حضرت ولم أجدك!

ليس هناك أسوأ من أن تصل إلى مكتبك متأخرًا في «جهة خدمية»، لتجد رأس المؤسسة ينتظرك فيه. فما بالنا إذا كان رئيس الوزراء نفسه من ينتظرك مع المراجعين! لم يكن لديّ شك في أن المسؤولين الذين فاجأهم الشيخ محمد بن راشد بالدخول إلى مكاتبهم، ليجدها شاغرة، كانوا يتمنون لو أنه قد خُصِمَ من رواتبهم أي مبلغ، بدلاً من أن يوضعوا في هذا المأزق الذي سمع به القاصي والداني.
ربما نلتمس لبعضهم العذر، لكن ما يهمنا في هذا المقال مبدأ التسيب في الحضور لدى قياديين في المؤسسات القائمة على خدمة المراجعين. حينما يتراخى المسؤول في حضوره وانصرافه، يضرب مثالاً سلبيًا لمرؤوسيه، الأمر الذي تتصاعد معه مشاعر الغضب لدى المراجعين.
أذكر أن طلبنا للعشاء في أحد المطاعم الفاخرة استغرق نحو 50 دقيقة، وهي مدة طويلة لزبائن كانوا يتضورون جوعًا. سألت المدير: قبل أن أشتكي، هل هذا هو العدد الطبيعي لنوادل تقديم الخدمة؟ فقال: «بصراحة لا.. نصفهم غياب ومرضيات، ومنهم أحد الطهاة»! انتهى كلامه. الخدمات مثل المطاعم هناك نسبة محددة من الزبائن يمكن أن يخدمها كل نادل بالساعة، فإذا قل العدد، انكشف القصور.
أذكر أن د. أحمد الربعي، وزير التعليم الكويتي، المنتخب من البرلمان، بعد أن أدى القسم الوزاري عام 1992، ذهب إلى أقصى مدرسة في شمال البلاد، قبل أن يرى مكتبه في الوزارة. وفاجأ إدارة المدرسة في الصباح الباكر وهو يستقبل الطلبة والمدرسين، ويستمع إليهم. ونقلت الصحف ذلك في خطوة أعتبرت الأولى من نوعها في بلادنا، وذلك في رسالة مفادها أن المدرسة أساس التعليم، وهي رسالة غير مباشرة بأهمية روح الانضباط فيها.
الوزير الراحل د. غازي القصيبي أيضًا طاف في جولة تفقدية على كل المكاتب، بعد بداية الدوام الرسمي، حاملاً معه نحو 300 بطاقة شخصية ممهورة باسمه، وفيها عبارة «حضرت بعد بداية الدوام بأكثر من ساعة، ولم أجدك.. أرجو ألا يتكرر هذا التصرف»!
الغريب ليس تصرف د. القصيبي الذي اشتهر بأعمال رمزية كهذه، ليوصل رسالة للجميع بأن عهدًا جديدًا قد بدأ بتوليه زمام الوزارة، لكن العجيب أن أحد المسؤولين بدلاً من أن يبرر تأخره، قام بتقديم استقالته، لأنه اعتبر تصرف الوزير «إهانة» شخصية له، والأغرب أن الوزير قبلها على الفور! ويقول د. القصيبي، في كتابه «حياة في الإدارة»، أحد أروع الكتب الحديثة، إنه «منذ ذلك اليوم، إلى أن تركت الوزارة، لا أعتقد أن موظفًا واحدًا تخلف عن العمل إلا لأسباب مشروعة».
لدينا في تخصص الإدارة حلول كثيرة لضبط التسيب في الحضور عمومًا، منها وضع نظام الساعات المرنة (Flex Hours)، بحيث يأتي الموظف في الوقت الذي يناسبه إلى حد ساعة معينة صباحًا، شريطة أن يقضي إجمالي عدد الساعات المقررة يوميًا. غير أن هذا الخيار ليس محبذًا في الجهات الخدمية التي تحتاج إلى انضباط. فيصعب مثلاً تطبيقها في فرع بنكي، أو إدارة تحتك مباشرة بالجمهور. وهناك طريقة أخرى، وهي أن تنتقص ساعات التأخر ودقائقها من رصيد الاستئذانات الشهرية، أو رصيد الإجازات الطارئة والعرضية، أو ما يسمى بالـPTO، فحينما يشعر الموظف بأنه سيحرم من امتيازات ما، سيدفعه ذلك لوضع حد لتسيبه أو تراخيه في الحضور المبكر.
اؤمن بأن التسيب في «الحضور والانصراف» ليس مقياسًا بالضرورة لقوة أداء الموظفين، لكن حينما يتعلق الأمر بجهة خدمية، خاصة أو عامة، فإن الأمر يختلف، لأن التراخي في ذلك سيترتب عليه ضرر في سمعة المؤسسة القائمة على تقديم خدمات مباشرة للجمهور.