د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

المركز العربي لمكافحة الإرهاب

الإرهاب له وجهان: وجه عملياتي يقوم بعمليات للقتل والتدمير هدفها خلق حالة من الخوف الدائم، والرعب المستمر، والفوضى الكاملة في المجتمعات التي يحاول السيطرة عليها؛ ووجه فكري يحاول أن يسعى بالدين وفي الدين كوسيلة للتجنيد والهيمنة الأخلاقية الكافية والحامية للعمليات العسكرية. كلا الوجهين كما في العُملة تعبير عن أمر واحد، ولكن لكل جانب منهما أدواته وأساليب دراسته وفهمه؛ وكلاهما معا يحتاج إلى فهم ودراسات مستفيضة حتى يمكن مقاومة الإرهاب الذي تولد داخل المجتمعات والدول العربية خلال السنوات الماضية. ومن المدهش أنه خلال الفترات التي اشتد فيها الصراع العربي الإسرائيلي سادت الصيحة منذ الستينات من القرن الماضي: اعرف عدوك. وبالفعل فإن مركز الدراسات الفلسطينية التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية التابع لمؤسسة الأهرام الصحافية لعبا دورا مهما في عملية التعريف بإسرائيل، واقتفى خطواتهما بعد ذلك الكثير من المؤسسات العربية التي راحت تقترب من إسرائيل، وتتعرف عليها وتتقن اللغة العبرية حتى يمكن معرفة «اللغة» التي تستخدمها إسرائيل كلسان، وكعقلية للحركة السياسية والاستراتيجية.
وللأسف فإنه في حدود العلم فإن ما هو متاح عربيا لمواجهة الإرهاب عملياتيا وفكريا لا يزال أقل بكثير من حجم التحدي الإرهابي الموجود. ولا أظن أن أحدا سوف يقلل من مدى الخطر القائم ليس فقط الآن حيث العمليات الإرهابية المتكررة تكفي لدرجة من اليقظة والاستعداد للمواجهة، ولكنها في نفس الوقت لا تكفي لمواجهة اتساع التعصب والتطرف وثقافة العنف التي ما فتئت تتحرك نحو الكثير من المغالاة، وكأنه لا توجد مراجعة نحو الاعتدال، وإنما دوما مراجعة نحو المزيد من الغلو. وبعد أن صار متيقنا أن تنظيم «القاعدة» قد وصل إلى القمة في فكر الخوارج، وما استنبطه منه في مشروعية القتل والتدمير في العصر الحديث، حتى وجدناه يبدو معتدلا في مواجهة الفكر الداعشي. لم يعد أسامة بن لادن أميرا على الإرهابيين، وإنما صار الزرقاوي وخليفته أبو بكر البغدادي امبراطورين على الإرهاب.
ما جرى خلال العامين الماضيين بعد إنشاء ما سمي «دولة الخلافة» المزعومة لم يكن متخيلا بعد ذلك بسنوات، خاصة بعد أن تم التخلص من أسامة بن لادن، وظهرت أعراض الوهن والضعف والتشتت على تنظيم القاعدة؛ فباختصار صار الإرهاب مثل طائر العنقاء الذي يتجدد كلما تم الخلاص منه. والثابت حتى الآن أن الإرهابيين نجحوا بقدر تخلفهم الحياتي عن العصر الذي نعيش فيه؛ فإنهم تبنوا وسائله التكنولوجية بشراسة كبيرة سواء ما تعلق فيها بوسائل الاتصال الفردي والتواصل الاجتماعي أو حتى بالبحث في أسلحة الدمار الشامل. ما نشاهده وشهدناه خلال الفترة القصيرة الماضية منذ بدأت العمليات في باريس وبروكسل وميونيخ وأنقرة وإسطنبول ودكا وتونس وسان براندينو وأورلاندو في الولايات المتحدة وغيرها من مواقع تشير إلى ما هو قادم، وأن سقوط «داعش» على أهميته لن يكون علامة النهاية في الحركات الإرهابية.
الأمر كله يحتاج إلى قدر أكبر من الجهد المُركز على الجانبين العملياتي والفكري من خلال البحث والدراسة والتفكير والفهم للعدو الإرهابي الذي عقد العزم على إشاعة الفوضى في البلدان العربية التي تكفي لتدميرها وإخضاعها. هنا، فإننا لا نقلل من الجهد المبذول، ولا للاهتمام والموارد العلمية المتاحة والتي حتى الآن كسبت الكثير من المعارك، ولكن كسب الحرب يحتاج إلى جهد آخر. ما هو مطلوب هو مواجهة اليقين أن عدد القتلى من المسلمين يتجاوز 95 في المائة من كل ضحايا الإرهاب في العالم مهما كان الصراخ العالمي، والغربي خاصة، عاليا من الحالة الإرهابية. فالهدف الرئيسي للإرهابيين هو البلدان العربية فرادى ومجتمعة، ودفعها دفعا إلى التخلف والخروج من العصر؛ ومن ثم فإن الأمر يحتاج لمركز عربي يقوم بمهمة متابعة ورصد وتحليل كل ما يتعلق بالإرهاب والإرهابيين. المعلومات هنا ذات أهمية بالغة، ولكن ما توفر منها حول الإرهابيين العرب جاء معظمه من الدراسات الغربية والأميركية، خاصة التي اعتمدت على ما تواتر من البلدان العربية المختلفة، وعلى ما كان متاحا من دراسة حالات الإرهابيين الغربيين في السجون الأوروبية والأميركية؛ والأهم ما أتت به وسائل التنصت والمراقبة والمتابعة، سواء الأرضية أو الفضائية. لقد أفرزت حروب أفغانستان والعراق وحاليا على الحدود العراقية السورية، واليمن، وسيناء، والقرن الأفريقي، والصحراء الأفريقية، أدبا سياسيا كثيفا يلقي بعضا من الضوء على الحالة الإرهابية. ولكن المخزون الضخم منها يظل لدينا حيث يوجد الرصيد الكبير لمقاومة الإرهاب، كما يوجد في نفس الوقت عدد غير قليل من الإرهابيين في السجون العربية.
دراسة ما جرى، وما يجري، وخلق قاعدة معلومات عربية عن الإرهاب والإرهابيين، ضرورة ملحة في هذه المرحلة من الحرب ضد الإرهاب. وإذا كان لذلك ضرورة عملياتية تقيم العمليات العسكرية الجارية الآن في جبهات متعددة، فإن له أكثر من ذلك ضرورة فكرية، لأن في ذلك ليس حماية للحاضر، وإنما للمستقبل أيضا. ما حدث حتى الآن كان محاولة دفع المؤسسات الدينية الرئيسية في البلدان العربية المختلفة لكي تتبنى «تجديد الفكر الديني» وهو ما قاد بالفعل إلى بعض من زيادة الاهتمام، وبعض من التحديث للكتب، وبعض آخر من التجديد للخطاب الديني، وبعض ثالث من المؤتمرات التي تدين الإرهاب. كل ذلك لا بأس به، وهو ضروري للتأكيد على أن الدين الإسلامي لا يمكن سرقته؛ ولكن ذلك ليس كافيا لأن الظاهرة نفسها معقدة، ولا تحتوي فقط على الضلال الديني، وإنما فيها الكثير من الانحراف النفسي والاجتماعي الذي يحتاج لمقاربات مختلفة غير ما عهدناه من المؤسسات الدينية المختلفة. المركز العربي لمكافحة الإرهاب هو الذي يمكنه ضم كل الخيوط المختلفة، والجهود المبعثرة، في اتجاه الحشد والتعبئة التي يكون لها ثلاثة أهداف: هزيمة الإرهابيين في الحرب، وهزيمة الإرهاب في الفكر، وكسب معركة القلوب والعقول، خاصة بين الشباب العربي والمسلم.
من يقوم بهذه المهمة متروك للدول العربية لكي تقرر، وللجامعة العربية لكي تتبنى أو تبحث. الدولة العربية مهمة في هذا الموضوع لأن لديها بالفعل ما تقدمه أولا من معلومات وإمكانيات، كما أنها الأكثر تعرضا للخطر، وبالتأكيد فإن هناك بعضا من التنسيق وتبادل المعلومات، وكما يقال دائما إن مجلس وزراء الداخلية العرب هو الأكثر نشاطا وإنتاجية بين مجالس الوزراء العرب في مجالات مختلفة اقتصادية كانت أو سياسية. ولكن ذلك أمر، والجهد البحثي المشترك والمُرَكز أمر آخر، وعلى الأقل فربما يجب الاقتداء بما يقوم به ذلك التجمع الجاري بين الدول الخمس الناطقة باللغة الإنجليزية (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزلندا) في التعامل مع تهديدات مختلفة أهمها الآن مكافحة الإرهاب. فهل يمكن للدول الناطقة بالعربية أن تفعل ذلك؟ اللهم قد بلّغت.