خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من ظرفاء السياسة البريطانية

من ألمع الساسة البريطانيين في الظرف كان ريتشارد شريدان، آيرلندي الأصل إنجليزي المقام. الظرف والسخرية والفكاهة كثيراً ما ترتبط بالحياة البرلمانية من ناحية، والعمل المسرحي من الناحية الأخرى. وكذا كان شريدان. كان نائباً في البرلمان، وكان يدير مسرحاً في لندن، ويكتب مسرحيات في غاية الظرف والفكاهة، كمدرسة الفضائح والخصمان. وكانت له قفشات شهيرة في البرلمان البريطاني. حدث أن احترق المسرح الذي أقامه في دروري لين بلندن. رأوه جالساً على كرسي وبيده كأس من الشراب. انتقده القوم على ذلك. أنبوه، قائلين: ما هذا؟ أتجلس وتشرب والمسرح يحترق أمامك؟! قال: «أفلا يجوز لإنسان أن يشرب كأسا أمام نار موقدة!».
كذا كان جورج برنارد شو. جاء من آيرلندا، واستقر في إنجلترا، ليصبح أعظم كاتب ومتحدث ساخر في التاريخ. من لا يحفظ نكتة من نكاته ليس بمثقف في رأيي. ولكن برنارد شو لم يدخل البرلمان، وكان يحتقره إلى حد ما. آمن بأن العمل المفيد والمجدي يرتبط بمجلس البلدية. وقضى عدة سنوات عضواً في مجلس بلدية سان بانكرس بلندن. كان اشتراكياً ولا دينياً. التقاه يوماً الكاتب الإنجليزي جسترتن، وكان هذا محافظاً وكاثوليكياً متديناً. وكان بديناً، على عكس برنارد شو الذي كان نحيفاً جداً. فما أن رأى برنارد شو حتى قال له: «من يراك يستطيع أن يرى فيك المجاعة العالمية!». أجاب شو وهو يشير إلى كرش غريمه، فقال: «ومن يراك يرى السبب في مجاعة العالم».
كثيراً ما نلاحظ هذا الخط في الثقافة والسياسة البريطانية. رجال يولدون وينشأون في آيرلندا، ثم يظهرون عبقريتهم في إنجلترا. ريتشارد شريدان وبرنارد شو، وأيضًا أوسكار وايلد. كان هو أيضاً من عباقرة المسرح الكوميدي الساخر، لم يعبأ كثيراً بالسياسة، ولكن كل مسرحياته الكوميدية كانت وما زالت تجسم تفاهة الطبقة الأرستقراطية والبورجوازية وعبثها في بريطانيا. وهو ما يفسر اهتمام السوفيات بها، وبإخراجها مراراً. اشتهر أوسكار وايلد بأقواله المأثورة الساخرة، مثل:
«اغفر دائماً لأعدائك.. فما من شيء سيوجعهم أكثر من ذلك».
«الشيء الوحيد الذي عليك أن تفعله بالنصائح والحِكم هو أن تتجاهلها، وتمررها للآخرين».
«حقاً العالم كله مسرح، ولكن الممثلين الذين يظهرون عليه سيئون جداً».
والكلمة الأخيرة هي تعقيب ساخر على قول شكسبير «العالم كله مسرح». كان أوسكار وايلد يلقي بهذه الدرر من الكلام في مجلسه، في كازينو دي باريس بلندن، حتى قال القوم إن من عاش في زمن أوسكار وايلد ولم يسمعه يتكلم فهو كمن عاش في زمن الإغريق، ولم يشاهد معبد البارثنون.
لحق بهذه الفصيلة فيما بعد، آيرلنديون ينبغون في إنجلترا، كاتب مسرحي آخر، صموئيل بيكيت، صاحب المسرحية الشهيرة «انتظاراً لغودو» وسواها من الأعمال المسرحية الأخرى التي جسمت تفاهة واعتلال المجتمع البورجوازي البريطاني ومعتقداته. ومن كرهه لهذا المجتمع، اختار العيش في فرنسا، بدلاً من إنجلترا أو آيرلندا.