إميل أمين
كاتب مصري
TT

الشرق الأوسط.. إلى أين؟

يتعاطي كثيرون التنظير للشرق الأوسط وكأنه «قصبة تحركها الريح»، ريح القوى والتحالفات الدولية، وكأنه خلو من بشر حقيقيين، ودول صنعت حضارات إنسانية لا تزال ذكراها خالدة عبر صفحات التاريخ، وفي هذا الحال يتساءل المرء.. من أخطأ.. هل العرب أنفسهم أم أعداؤهم؟
لا يستسيغ المرء جلد الذات، أو رفع الصوت بالمراثي الحزينة، غير أن هذا لا يمنع من «قراءة نقدية للذات العربية المعطوبة»، حتى الساعة، الذات التي تشرنقت في حالة من حالات الانسداد التاريخي، بين نموذجين سياسيين للحكم دون مقدرة لأحدهما في الأخذ بيد العالم العربي إلى ميناء الدول العصرانية الحديثة.
لا يحتمل المسطح المتاح للكتابة الإسهاب فلسفيًا في تحليل المشهد، وربما يقتضي الأمر القفز براغماتيًا على المشهد الجيوبوليتيكي لواقع المنطقة وإلى أين تمضي؟
يستلفت النظر في أحوال الشرق الأوسط المضطربة وحدوده شبه المتلاشية أن ما كان منذ مائة عام لا يزال ساريًا في الحاضر المأزوم، فمن صناعة القرار المتعلق بالمنطقة ما بين فرنسا وإنجلترا، إلى تحديد مصائر العالم العربي وأقداره اليوم، من موسكو إلى واشنطن أو العكس، وعلى غير المصدق أن يراجع الأحاديث العلنية والخفية الدائرة حول صفقة بشأن سوريا، ما يعني أنه عوضًا عن «سايكس - بيكو»، أضحينا في زمن «كيري - لافروف».
هل الشرق الأوسط مرشح لمزيد من الاضطراب في قادمات الأيام؟
الشاهد أنه ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة أضحى هذا الإقليم غير القادر على تدبير أموره بأيدي مواطنيه، منطقة نفوذ أميركية دون منازع، والآن يبدو أن الجميع قلقون من اضمحلال هذا النفوذ، أو بمعنى أدق من الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، وهنا تتصاعد في عنان السماء علامات استفهام جذرية من نوعية هل واشنطن لديها رفاهية هذا الانسحاب أم أنه أمر تفرضه ضريبة «فرط الامتداد الإمبراطوري»، التي تحيق بالأمم الكبيرة في مرحلة الانكماش؟
واقع الحال يخبر بأن الانسحاب الأميركي دفعة واحدة، مسألة كارثية، لا سيما بعد الحرائق التي أشعلتها واشنطن، عن عمد أو عن سوء تدابير، بدءًا من مشروعاتها لنشر الديمقراطية، وصولاً إلى تدخلاتها العسكرية ما ظهر منها وما بطن، والحقيقة التي أجاد البروفسور الأميركي ستيفان إم. والت في تلخيصها، هي أن «الدبلوماسية الأميركية غالبًا ما تعمد إلى إقحام واشنطن في صراعات وتعقيدات لا تستطيع الفوز بها ولا التهرب منها».
وعليه فهي الآن غير قادرة؛ بسبب تغيرات كثيرة تتصل بالحالة القطبية العالمية، على ممارسة أدوارها السابقة نفسها بوصفها الطرف المهيمن والمنفرد بالقرار الأممي، وفي الوقت ذاته، يكلفها الانسحاب من المشهد الشرق أوسطي مرة وإلى الأبد، خسائر جسيمة لا تقوى على مواجهتها، بل تتعارض جذريا مع استراتيجياتها بدءًا من القرن الأميركي للمحافظين الجدد، وصولاً إلى الاستدارة نحو آسيا 2010.
أخطر المشاهد التي باتت غالبة على صعيد الشرق الأوسط الحزين في حاضرات أيامنا، تلك المتصلة بالإرهاب، وهو محصلة طبيعية لأخطاء أميركية استراتيجية تبدأ من أفغانستان في ثمانينات القرن المنصرم وصولاً إلى «داعش»، التجلي الأكثر ضراوة لـ«القاعدة».
كيف يمكن للشرق الأوسط أن تستقيم أحواله أو يهدأ باله في ظل غياب إرادة دولية قاطعة بالقضاء على طاعون القرن الحادي والعشرين، وحتى إن قلنا إنَّ واشنطن لم تكن وراء خلق «داعش»، فهي على أقل تقدير تستفيد من حضوره لتحقيق مآرب أخرى.
وفي كل الأحوال تبقى واشنطن مسألة إشكالية في الشرق أوسطية، وقد وصف المفكر الاستراتيجي الأميركي، والعسكري السابق أندرو باسيفيتش الأستاذ في جامعة واشنطن الأمر بقوله: «اختارت الولايات المتحدة أن تبقى في موقع الوسط من كل شيء ولم تستطع لا احتواء مشكلة الإرهاب العالمي ولا قمعه، وبدلاً من أن تثير القوات العسكرية الأميركية رعبه، قامت فقط بإزعاجه، وهذا دليل على أن القوات العسكرية الأميركية تفتقر للكفاءة والعزيمة».
لم يعد الشرق الأوسط ملعبًا أميركيًا بامتياز، فقد بات ساحة صراعات للقوى الدولية، والدليل التدخل الروسي العسكري في سوريا؛ الأمر الذي يعني تغير الأدوار الفاعلة على رقعة شطرنج المنطقة، والزيارات المتتالية لقادة المنطقة والصفقات السياسية والعسكرية مع موسكو دليل يحمل درجة من الوعي والإدراك بأن روسيا قد تكون شريكًا مستقبلاً في رسم معالم خريطة الشرق الأوسط الجديد.. لكن هل هذا هو الحل؟
قطعًا ليس هذا هو الحل، فالرهان على موسكو لا يختلف كثيرًا عن الرهان على واشنطن، والحقيقة المؤكدة أن كلتيهما تسعى إلى مزيد من التمكين وبسط الهيمنة والنفوذ، وربما لتفادي أو تلافي الصراع بينهما ستلجآن في المستقبل إلى صيغة جديدة للمنطقة، حتى وإن تنافت أو تجافت مع الحقائق الديموغرافية أو التاريخية للمنطقة، بالضبط كما جرى الحال بين المسيو «بيكو» والمستر «سايكس» وإن تغيرت الأسماء أو تبدلت الصيغ.
هل هذا وقت التنادي عربيًا لرسم خريطة شرق أوسطية ذاتية المنشأ والتوجه، بإرادة عربية - عربية، وبأفكار ومقترحات وحلول لمعضلات المشهد وقضاياه المتشابكة والمتداخلة، بل المعقدة؟
الخطورة الكبرى هذه المرة، التي تتجاوز «خطيئة سايكس - بيكو»، هي وجود قوى إقليمية غير عربية، خلف أبواب العرب تشتهي أن تتسيد الموقف، وتلتهم العرب بشرًا وحجرًا، ما يضاعف من كارثية المشهد، ويجعل القرن القادم في الشرق الأوسط مرشحًا لأهوال أسوأ من سابقة، إلا ما رحم ربك.