د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

ليبيا وأزمة الميليشيات

وجود كتائب خارج الشرعية، في ظل اشتعال فتيل الاغتيالات والقتل والاختطاف، يجعلها تحت دائرة الشك والتهمة ما دامت ترفض الانضمام للجيش أو الشرطة، ويطرح أسئلة كثيرة، منها لمن ولاء هذه الكتائب؟ ومن أين تتلقى التمويل؟ وما الأجندة التي تؤمن بها؟
فالميليشيا (Militia) كلمة دخيلة في الأصل على المعجم العربي الليبي، وهى مصطلح لاتيني يعني «تنظيم عسكري غير نظامي خارج عن سلطة الدولة». والميليشيات في كثير من الأحيان تستخدمها الجماعات والأحزاب السياسية للتأثير على القرار السياسي، مما يجعلها تشكل تهديدًا مباشرًا للحرية وتحقيق الديمقراطية، فوجود أي تشكيل مسلح خارج عن شرعية الدولة يعتبر ميليشيا تهدد السلم الاجتماعي، فلا وجود لأي استثناء. وظاهرة الميليشيات لم تكن معروفة في التاريخ الليبي القديم، وتدخلها في الشأن العام يكون بشكل سلبي في كثير من الأحيان، ووجودها بمظاهر مسلحة دون أي انضباط، تتحول فيه البلاد إلى غابة تنهج لغة الخطف والقتل بديلاً للغة الحوار في الدولة المغيبة والمقهورة بالميليشيات، سواء الجهوية منها أو الفئوية المؤدلجة، التي تسببت في تمترس بعض أطراف الصراع السياسي خلفها، والاستقواء بها في فرض إرادة تلك القوى، وهذا ترجمته الانتهاكات المتكررة للمؤتمر الوطني في طرابلس، ثم محاولة احتلال مدينة بنغازي، ومن ثم محاولة السيطرة عليها، واستجلاب عناصر «داعش» إليها لمجرد الإعلان عن أنها ستكون مقر البرلمان المنتخب، وفق الإعلان الدستوري.
فالحل الحقيقي هو حل هذه الميليشيات، وإعادة توزيع أفرادها بشكل فردي يمنع تكرار تجربة «الدروع» التي كانت محاولة فاشلة لشرعنة ميليشيات فئوية ككتائب نظامية، وليس كأفراد تحت سلطة وزارة الدفاع سرعان ما انكشف زيفها في أول حالة اصطفاف فئوي وحزبي، لتثبت أنها مجرد ميليشيات حزبية في ثوب عسكري.
حجة البعض في الإبقاء على هذه الميليشيات هي زعمهم أنها «لحماية الثورة»، في حين أن الثورة في الأصل هي فعل جماعي يشمل كل الأطياف، وإذا انحصرت عند العسكر تصبح انقلابًا، ولو قامت بها فئة أو جماعة أو حزب تصبح فئوية، ولهذا لا تصبح ثورة كاملة الأركان إلا بالجميع. ولكن اليوم، بعد خمسة أعوام ضمن مخاض عسير ودامٍ، لا يزال مستمرًا، تصاحبه حالة من الشك التي تسيطر على المشهد السياسي، وتطغى عليه من خلال حالة من التنافر بين السلطة «التشريعية» والسلطة التنفيذية، ووجود ثلاث حكومات بسبب ميكافيلية البعض نتيجة لعدم الإحساس بالمشكلات بقدر القفز عليها، والهروب إلى الأمام، والمراهنة على الفوضى كمحرك فاعل وشماعة لرمي الأخطاء في أحضانها، وهذا جراء الممارسة الخاطئة لمفهوم السلطة بنوعيها، في ظل تعطل السلطة القضائية، وغياب السلطة الرابعة بشكلها الفاعل، مما تسبب في حالة من الاستبداد من خلال ممارسة التسلط والانفراد بالسلطة وقمع الرأي وممارسة المركزية بجميع أنواعها عند الحكومة، في ظل غياب الدستور، وتعمد التأخر في كتابته، وإطالة عمر المرحلة الانتقالية، وتغييب منصب الرئيس، وهى جميعها عوامل ساعدت على حالة من الاستبداد والاستئثار بالسلطة، مما تسبب في حالة من الاصطفاف في الشارع الليبي سببه التناطح الفئوي (الحزبي)، واستقطاب شديد يعبث بالسلم الاجتماعي.
فحراك الشارع العفوي يقع في أغلب ظروفه ضحية لهذا التناطح، مما يتسبب في دموية سلميته، وحرف مساره، رغم مطالبه واضحة المعالم التي تتمحور في المجاهرة بالأمن بتفعيل الجيش والشرطة، وحل الميليشيات والكتائب الجهوية والمناطقية، وتفعيل جيش ذي عقيدة وطنية خالصة، ليتمكن من العيش كريمًا متمتعًا بثروة بلاده التي طالها الضياع، بين أموال مجمدة تتلاعب بها قوى استعمارية، ومليارات تستنزف من دون أن تنعكس بشكل واضح على رفاهية الشعب، فلا تزال الشوارع معتمة، والطرق تغمرها المياه السوداء والحفر. وقد يعزو سبب يأسه من الحكومة في تحقيق الأمن له إلى استمرار حالة التناطح، وسيطرة آيديولوجيات وجماعات على مفاصل الدولة، تحت بند واسم «ثائر» و«ثوار»، في حين أن الثائر الحقيقي شخص نبيل، ولكنه ليس نبيًا معصومًا عن الخطأ، وليس بالضرورة أن يحكم، فالثورة قامت من أجل الشعب بأكمله، وليست ليحكم «الثائر»، ويمارس الاستبداد بزرع الخوف، وصناعة الموت والرعب والفزع.