عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

جريمة «نيس» وجذور الإرهاب

بعيدًا عن أي مجاملات أو عباراتٍ مواربةٍ، فإن القضاء على الإرهاب لن يتم ولن يصل لأي ساحل أمانٍ ما لم يتمّ القضاء على جذوره الأصلية من خطابات وتياراتٍ، ومن جماعاتٍ ورموزٍ، وأي محاولاتٍ للتمييز بين جماعات الإرهاب وجماعات الإسلام السياسي هي محاولاتٌ فاشلةٌ بكل المقاييس.
العمليات التي تمت في السنة الأخيرة حول العالم من القتل الذي يعتمد أساسًا على الغدر، وعلى التفنن في ذلك الغدر، وآخرها هو العملية الإرهابية التي تمت في مدينة «نيس» الفرنسية حيث تم استخدام شاحنة لمهاجمة المحتفلين المدنيين المسالمين و«دهسهم» بكل بساطة، لمسافة كيلومترين، وقتل خلالها أربعة وثمانون شخصًا وخمسون إصاباتهم حرجةٌ ومصابون بالعشرات، وهي عمليات تتفنن في جنون الترويع والبشاعة والتوحش.
يتفنن الكثيرون في توزيع تركة الإرهاب وتشتيت توصيفه والتبرع الدائم بإبعاد التهم عنه. إنها بكل بساطةٍ الآيديولوجيا، وجماعات الإسلام السياسي، ويأتي بعدها تفسيرات وتحليلاتٌ كثيرة، منها السياسي ومنها الاقتصادي ومنها النفسي ومنها الاجتماعي وغيرها.
لنعد ترتيب المشهد الحالي، الإرهاب المعاصر هو في معظمه إرهاب ينتمي للإسلام، هذه واحدةٌ صحيحةٌ، فقد كان لكثير من الأمم والشعوب في مراحل من تاريخها أدوارٌ إرهابيةٌ معروفةٌ ولكن في هذه اللحظة من تاريخ البشرية فالغالبية العظمى ممن يستخدمون الإرهاب هم من يدعون الإسلام، والثانية هي أن الإسلام كدينٍ له من التأويلات والقراءات عشرات بل مئات، والمسلمون يبلغ تعدادهم مليارًا ونصف المليار، ولو صاروا كلهم إرهابيين لنسفوا العالم بأسره. أما الثالثة فهي العلاقة الدقيقة بين أقليةٍ مسلمةٍ ظهرت قبل ثمانية عقودٍ وأسست لكل الإرهاب المعاصر وسمت نفسها بالإسلام ورسمت كل الطرق والمبادئ التي يحتكم لها الإرهاب المعاصر، وهي جماعة الإخوان المسلمين التي تفرع عنها عشرات ومئات التنظيمات الإرهابية.
وسؤال محق يمكن أن يطرح؛ فأين مسؤولية الخوارج؟ وأين مسؤولية الحركات الراديكالية؟ وأين مسؤولية غيرها من الفرق والجماعات الدينية المتطرفة والدموية في تاريخ المسلمين؟ بل وفي تاريخ الأمم والشعوب؟ والجواب سهل وميسورٌ، وهو أنك لا تجد في ذلك التاريخ البشري الدموي الطويل من له أثرٌ معاصرٌ في الأحداث والجرائم إلا ذلك التغيير الكبير في تاريخ المسلمين، الذي جعل من الجماعات والتنظيمات ممثلاً لكل الإسلام أو لكل المسلمين، وهي جريمة تاريخية بحق الإسلام والإنسانية، بمعنى أن تلك فرقٌ ومدارسٌ قديمةٌ لا تجد لها أثرًا في الحاضر، وأن الراديكالية ذات المدارس المتشعبة والمتعددة لم يبق لخطابها التقليدي من يمثله كتيار بل لقد تحول أغلب تياراتها لمدارس تندرج تحت اللقاء المتشدد الإخواني.
لقد أصبحت الحرب على الإرهاب أولويةً دوليةً، يفتخر كل من شارك فيها قبل أن تستفحل ببعد النظر وصدق الرؤية، وسيندم كل من قصر في محاربتها لأي اعتبار، وأكثر الفاشلين هو من دعم جذرها المعاصر في الإسلام السياسي كما فعل الرئيس الأميركي باراك أوباما، ومن تهاون في حربها أو حاول التقاعس في ذلك جنى ويجني الكثير من وبال الإرهاب وتنظيماته وجرائمه.
لقد كانت رؤية الرئيس الأميركي تكمن في أن التقارب مع الجماعات المتشددة سنيًا وشيعيًا، والمقصود بهما جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتونس وبقية فروعها، وجماعة الخميني وولاية الفقيه في إيران، وقد ثبت اليوم فشل تلك الرؤية وخطر ذلك التقارب، فعلى الجانب السني تفشت التنظيمات الإرهابية أكثر مما كان قبل تلك الرؤية وتحولت قيادة الجماعة في مصر لتبني الإرهاب صراحةً ومعها تياراتٌ متعددةٌ داخل الجماعة وذهبت الجماعة للإرهاب الصريح، وعلى الجانب الشيعي ازداد شرور ملالي ولاية الفقيه، وأصبحت ميليشياتهم الطائفية الإرهابية تنشر القتل والدماء والفوضى في كل بلدٍ تمكنت من اختراقه، ويمكن النظر لما يجري في العراق وسوريا ولبنان واليمن لمعرفة حجم الدمار الهائل والتخريب واسع الانتشار والتدمير الممنهج للدول والشعوب.
فشل هذه الرؤية يكمن في أنها بحسب نتائجها هي دعمٌ للإرهاب بشكلٍ غير مباشرٍ، أو هي منحه فرصةً لينتشر ويعزز مواقفه ويوسع انتشاره، وهذا يصح بنفس الدرجة على من يغفل عن الجانب الآيديولوجي في قراءة الإرهاب ويلجأ إلى أبعادٍ أخرى، نعم لبعضها دورٌ دون شكٍ، ولكنه ليس الدور الرئيس ولا الثيمة الأصلية لقراءة ظاهرة الإرهاب.
حجم البشاعة التي وصل إليها الإرهابيون جعل كثيرًا من الأسوياء لا يرون في منفذيه إلا مجانين مرضى، وهم دون شكٍ مرضى بالإجرام والتعطش للدماء، ولكن المجانين عبر التاريخ والأمم لم يكونوا دمويين بهذه الطريقة، ما يعيدنا إلى وجود بيئةٍ وخطابٍ حاضنٍ وتياراتٍ وتنظيماتٍ راعيةٍ تمنح هؤلاء المجرمين كل ما يلزم للإقدام على جرائمهم بل وتمنحهم نياشين مجدٍ زائف.
كلما رأيت أو قرأت لمن يبرر الإرهاب بأي شكلٍ من الأشكال فاعلم بأن ذلك مشاركة في الإرهاب، فعندما يأتي شخص يعلق على جريمة نيس الإرهابية ليقول: ثمة إرهاب آخر يجري في هذا المكان أو ذاك، فاعلم أنه متعاطف مع الإرهاب لأن الإرهاب مدانٌ بالأساس في كل زمانٍ ومكانٍ وتجاه أي أحد، ولا يتعاطف مع قتل الغدر للمدنيين المسالمين إلا إرهابي أقعده الجبن أو محرضٌ يستغل أي سبيل للتأثير في الشباب ودفعهم للإرهاب.
ستصل الإنسانية لمرحلةٍ ستكون مضطرةً لتطهير نفسها من كل معادلات المبادئ والمفاهيم التي شكلت لقرونٍ وعقودٍ أفضل ما أنتجت البشرية بهدف القضاء على هذا الداء المستفحل، بمعنى أن الدول المتحضرة تمتلك من القدرة على تعديل القوانين ما يمنحها مرونةً في قطع دابر الإرهاب وداعميه ومروجيه، وستشهد دول غربيةٌ وشرقيةٌ تياراتٍ سياسية وشعبية تطالب بإجراءاتٍ أكثر تشددًا ضد كل الإرهاب وثماره وجذوره.
أخيرًا، فقد أنجزت كثيرٌ من الأمم والشعوب والدول قطيعةً حقيقيةً مع كل عناصر الإرهاب في تراثها، وتحولت بالتالي لأمم متحضرةٍ ودول مدنية وشعوبٍ مستنيرةٍ، وهناك العديد من النماذج حول العالم لذلك، ليست بالطبع متطابقةً، ولكن كل أمةٍ وجدت طريقها الخاص للخلاص من كل خطابات الكراهية وآيديولوجيات الإرهاب، وربما بقي لبعض تلك الآيديولوجيات أتباع، ولكنهم محكومون بقوانين صارمةٍ تمنعهم من أي اعتداءٍ على الآخرين أو نشر الإرهاب، ولكن كثيرًا من المسلمين اليوم لم ينجزوا تلك القطيعة.

[email protected]