سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

هوامش الأسفار وطرائف الأخبار: «رحلة الكوين إليزابيث»

كانت القضية الفلسطينية لا تزال حيّة في كل مكان، خصوصًا في الأمم المتحدة. وكان العرب منذ 1967 يحاولون اختراق الدرع الإسرائيلية في أميركا. وتردد منذ أسابيع أن الأميركي من أصل لبناني جون شاهين ينوي شراء صحيفة «نيويورك بوست»، فرأينا في ذلك خطوة مهمة وسط إعلام يسيطر عليه الإسرائيليون سيطرة تامة.
طلبت موعدًا من جون شاهين من أجل مقابلة لـ«للملحق». وذهبت إلى مكتبه في إحدى ناطحات السحاب. وفور رؤيته لاحظت أن الرجل طاووس بلا ألوان جميلة، فقلت في نفسي فورًا «السلام على المقابلة». وإذ بدأت في طرح الأسئلة، سألني بطرف شفتيه: «ألم تعد أسئلة مكتوبة؟». أجبت: «حيث أعمل لا نُعد أسئلة مكتوبة، لأن ذلك فرض مدرسي، لا صحافة». وانتقلت إلى السؤال التالي، ثم ما بعده، فاعترضني قائلاً: «ولكن هذه أسئلة معروفة».
وقفت في سرعة، ورميت أوراقي على مكتبه وخرجت. لحق بي، فلم ألتفت. ورأت السكرتيرة المشهد، فلم ألتفت. وعندما وصلت إلى الدور الأرضي وجدت الحرس يطوقونني طالبين مني الانتظار. وبعد قليل وصلت سكرتيرة شاهين تعتذر وتطلب عنواني.
لمناسبة شراء «نيويورك بوست» أعد الثري اللبناني الأصل رحلة لمجموعة من الضيوف، من نيويورك إلى كندا، على متن السفينة الأسطورية الحديثة «الملكة إليزابيث الثانية». كان «الإنجليز» قد فقدوا السيادة الحربية على البحار وقرروا استبدال السيادة التجارية بها. وبدوره، قرر شاهين أن يستخدم هذا الاسم المحاط يومها بالذهول العالمي، لكي يطلق الفصل الجديد من حياته في الصحافة.
بعد يومين تلقيت أطنانًا من المطبوعات: تذكرة على «الكوين اليزابيث». صور عنها والخريطة إلى غرفتي. مواعيد الإبحار والرسو. الحجز في المسرح والمطاعم. عشاء على مائدة القبطان. موعد ولباس الحفل الراقص. ورجاء بالتفضل بالقبول. تفضلنا وقبلنا.
الإغراء الأول في الرحلة كان وجود عدد من الأصدقاء، والثاني القيام بالزيارة الأولى إلى كندا. تحدد موعد الرحلة في أوائل أكتوبر (تشرين الأول). وفي السادس منه، انفجرت الحرب غير آبهة بمواعيد الرحلات التي تتم مرة في العمر.
رميت مطبوعات وملونات شاهين جانبًا، وصرت أقوم بالرحلة اليومية بين غرفتي ومبنى هيئة الأمم. وفي سرعة العمل وتسارع الأحداث، لم أدرك أن ما أكتب عنه من نيويورك فصل جديد من تاريخ المنطقة والعالم. وكالعادة، كان العرب هنا مثل العرب هناك، مختلفين، ومشككين في قدرتهم على تحقيق نصر عسكري. الوحيد الذي صدق كان غولدا مائير، التي هددت باستخدام السلاح النووي إذا مضى العرب في الانتصار.
إلى اللقاء..