خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

أزمة بريطانيا مشكلة الديمقراطية

يظهر أنني أهوى الإعادة والتكرار. وما أود أن أعيده الآن هو ما أعاد قوله معظم المفكرين والفلاسفة عبر التاريخ، وهو أن الديمقراطية تؤدي إلى حكم الغوغاء. وخير تطبيق لهذا القول نجده في معظم الدول المتخلفة من أنظمة برلمانية متعثرة وانتخابات مشوهة تسلم الحكم إلى الأحزاب الإسلامجية وتمزق البلاد بهم.
بيد أن أم الديمقراطيات، إنجلترا، وقعت في هذا المطب مؤخرا. الأزمة التي تعصف فيها الآن وتدك كلا الحزبين الرئيسيين في البلاد في آن واحد.. حزب المحافظين على اليمين وحزب العمال على اليسار نتجت عن أصوات من سماهم الفلاسفة «الغوغاء».
أصر رئيس الحكومة المستر كاميرون على استفتاء الشعب بحق الاتفاق المعقد الذي توصل إليه مع الاتحاد الأوروبي. كان واثقا، على ما يظهر، بأن أكثرية الناخبين ستصوت في جانبه وتبرم ذلك الاتفاق. لا سيما بعد أن أيده في ذلك معظم جهابذة الاقتصاد ورجال المال والصناعة. جرى استفتاء الناخبين كما أراد وآويت أنا إلى فراشي ونمت قرير العينين، واثقا بأن الشعب سيصوت معه. لم أعبأ حتى بتتبع آخر الأخبار ونتائج التصويت.. وكذا فعل كثيرون.. نام أكثرهم.. بيد أننا عندما أفقنا صباحا وفتحنا الراديو وجدنا أن الأكثرية، أكثرية الناخبين قد صوتت ضده. وانفجرت الأزمة وأعلن رئيس الحكومة عزمه على الاستقالة. وبدأ العراك على الكراسي، من يتسلم الحكم بعده، ومن سينالون منصبهم معهم، وما الذي سيفعلونه بعد سقوط ذلك الاتفاق.. وما زلنا نعيش هذا الزلزال الذي تسببت به الأكثرية التي أخذ بعضها الآن يعضون على أصابعهم ندما على ما فعلوا.. وكان مثالا صغيرا من حكم الغوغاء.
وبين تلك الأيام والليالي، اقتنع رئيس حزب العمال، جيريمي كوربن، كذلك بوجاهة الاتفاق الذي توصل إليه المحافظون مع الاتحاد الأوروبي. وأعلن عن ذلك، لكنه لم يعبأ بإقناع العمال في الشمال، وهو زعيمهم، بالأمر الواقع، فصوتوا ضد الاتفاق. وقع هو أيضا في حيص بيص. لا أدري إذا كان بين الإنجليز أيضا حيص بيص، لكنهما موجودان في كل مكان ويواجههما العبادي في العراق كل يوم كما وجدت. انقلب عليه رفاقه وطالبوه بالاستقالة من رئاسة حزب العمال. لم يفعل فقدموا هم، أو أكثرهم استقالتهم.. رفعوا الشعار الذي سمعناه في الربيع العربي «ارحل»، قالوا له، وأجابهم بجواب بشار الأسد، بل ارحلوا أنتم، فأنا تؤيدني الأكثرية من العماليين. والآن يواجه هذا الحزب أيضا المطب نفسه، أو فالأقل مطبا مشابها، الأكثرية الغوغاء معه وزعامة الحزب من الناس الفاهمين تنبذه وترفض العمل معه.
وهكذا قسم الغوغاء حزب المحافظين وحزب العمال أيضا، في هذه المرحلة الدقيقة نفسها من تاريخ بريطانيا الطويل وتاريخ الاتحاد الأوروبي القصير. لحسن الحظ لا توجد حرب يشنها أرعن آخر مثل هتلر من برلين، ربما بوتين، من موسكو، وتوقع النظام الديمقراطي البريطاني في حيص بيص آخر.