خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

خرافات وخزعبلات

من عوامل تفوق العثمانيين على كل الأمم المحيطة بهم تفوق مدافعهم. كان أحد المهندسين الألمان قد وضع تصميمًا للمدافع يعطيها هذا التفوق بالقوة والمدى. حاول بيع براءة الاختراع لملك بروسيا ولكنه لم يعبأ به فباعه للسلطان العثماني. ففي ذلك الزمن أثبت السلطان أنه كان أذكى وأعلم من ملوك أوروبا.
كنت طفلاً صغيرًا أزور بيت جدتي في باب المعظم من بغداد. كنت أنظر من الشباك فأرى هذا المدفع الضخم، طوب أبو خزامة، تحيط به سلسلة نحاسية علقوا عليه خرقا خضراء وبيضاء وأوراقًا تحمل أدعية وآيات. وكانت هناك شموع أمام المدفع. هذا هو طوب أبو خزامة، مدفع عثماني على جانبي فوهته قرطان وشق في مقدمته. سموه أبا خزامة، والخزامة هي القرط الذي تزين به أنفها المرأة البدوية والمعيدية. والطوب هو المدفع في اللغة التركية.
كان الفرس قد احتلوا بغداد فاستنجد أهلها بالسلطان مراد فبعث جيشًا جرارًا لتحريرها يضم هذا المدفع الجبار الذي بلغ طوله نحو المترين. أوقعت قنابله الويل والدمار بالمحتلين. راح أهل بغداد يلصقون شتى الخرافات بهذا المدفع. اعتقد بعضهم بأنه ليس من صنع الإنسان بل نزل بقدرة الله من السماء. أصبح بمثابة ولي من الأولياء يلبي للناس طلباتهم. المرأة التي تريد زوجها يعود إليها، والشفاء لأولادها من الحصبة، وهلمجرا. اشعل شمعة أمامه وسترى كيف يحقق لك مرادك. وعندما نفدت ذخيرته أخذ يحفر الأرض من حوله ويصنع منها قنابل يصلي بها العدو. ولهذا اعتبروا الحفرات حوله في الشارع حفرات مقدسة لا يجوز للدولة أن تردمها وتصلحها! هكذا عرفت شارع الرشيد، الشارع الرئيسي في بغداد، كله طسات وحفر! إنها طسات مقدسة!
وعندما قرر العثمانيون سحب جيشهم من بغداد، شكل الجمهور وفدًا يتوسل بهم ترك هذا المدفع في بغداد بالنظر لقدسيته وتعلق الناس به. استجاب القائد التركي لطلبهم وترك هذا المدفع في بغداد وأحاطوه بسلسلة نحاسية تبعد الناس من مسه! وهكذا اعتدت أن أراه. بيت جدتي من الشمال ووزارة الدفاع من الجنوب. جاءت حكومة وسقطت حكومة ولكن المدفع، طوب أبو خزامة بقي صامدًا في مكانه، يزوره الناس ويتباركون به.
كنت في السابعة من عمري عندما وقفت أمامه وقلت لنفسي هذه خرافة ما أنزل الله بمثلها. ويظهر أن السلطات أيضًا وعت هذه الحقيقة تدريجيًا فأزاحته من مكانه ووضعته في زاوية من متحف الأسلحة الأثرية في مبنى باب الوسطاني في محلة الفضل. وعندما انهزمت حكومة رشيد عالي الكيلاني وعاد الإنجليز لاحتلال بغداد، سمعت شيخًا يسبح بمسبحته ويقول: «بغداد سقطت لأنهم شالوا الطوب أبو خزامة من مكانه وحبسوه في المتحف».