إميل أمين
كاتب مصري
TT

مسلمو أستراليا وفخ «الغيتو»

تخرج مظاهرات من قبل بعض الأستراليين، ضد المسلمين في البلاد، داعمة لحركات عنصرية أوروبية مثل «بيغيدا».
قد يتفهم المرء وجود تلك الجماعات في أستراليا، كردات فعل على المشاهد الداعشية ومن قبلها القاعدية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، غير أن ما لا يمكن تصوره هو أن يخرج وزير الهجرة الأسترالي بيتر داتون بتصريح ينضح عنصرية، وينم عن أنه لا يزال يعيش في أسر عقلية أستراليا البيضاء، تجاه المهاجرين، لا سيما من العرب والمسلمين.
أخيرًا وصف «داتون» المهاجرين بأنهم «أميون ولا يعرفون الحساب» (Illeterate and Innumerate)، وأنهم يغرقون في معونات الضمان الاجتماعي، والخدمات الصحية، بل اقتناص فرص العمل من الأستراليين أنفسهم.
كلام داتون متناقض وغير حقيقي، ذلك أنه لو كان صحيحًا أنهم جهلاء وأميون، لما كان لهم أن يحلوا محل أبناء البلد في وظائف بعينها، كما أن التاريخ يشهد لهؤلاء المهاجرين لا سيما من اللبنانيين والسوريين والمصريين بمهارة فائقة في الحياة العملية، لا سيما في أعمال التجارة والصناعة والزراعة، وبعضهم لديه منشآت تقوم بتوظيف الآلاف من الأستراليين، وقد نسي داتون أن الرجل الأبيض نفسه هو في الأصل مهاجر، وأن أصحاب الأرض الحقيقيين من جماعة «الأبورجنيز» شاهدون على أن أستراليا، وكما قال رئيس وزرائها مالكوم تيربنول: «مجتمع متعدد الثقافات، ومن أعلى المجتمعات البشرية نجاحًا».
يبقى تعبير داتون مثيرًا للجدل، غير أن الأكثر إثارة هو ردود فعل بعض الجاليات الإسلامية هناك، التي تقترب من ارتكاب خطأ تاريخي، يمكن أن يكون له تداعيات خطيرة في المستقبل القريب على العرب والمسلمين هناك.. ماذا عن ذلك؟
منذ بضعة أيام طالعتنا الأخبار بسعي شركة عقارية أسترالية، في بناء مجمع سكني خاص بالمسلمين في ضواحي مدينة ملبورن، يحتوي على 75 مسكنًا، ومسجد كبير، ومركز إسلامي، وأن أعمال البناء قد بدأت بالفعل في الموقع الذي يبعد عدة كيلومترات عن المنطقة التي شهدت مظاهرات عنيفة مناهضة للمسلمين العام الماضي.
ذريعة هذا العمل، وردت على لسان رئيس مجلس إدارة الاتحاد الإسلامي الأسترالي، قيصر تراد، وفيها أن هذا المشروع الموجه للمسلمين على وجه التحديد، يظهر رغبة المسلمين في العيش بسلام بعيدًا عن الاضطهاد، حيث يشعر كثير منهم بأن جزءًا من المجتمع الأسترالي لا يرحب بوجودهم، كما أن مشروعًا من هذا النوع سوف يتيح الفرصة للمسلمين في أستراليا لأداء عبادتهم وتعليم أبنائهم في مدارس إسلامية من دون أي اعتراض من قبل الجيران.
هل تستقيم هذه الرؤية في دولة مهجر، أو بمعنى أدق «قارة» مثل أستراليا؟
القارئ للوهلة الأولى لهذا التبرير تسترجع ذاكرته ولا شك تاريخ «الغيتو» اليهودي في دول أوروبا القرون الوسطى، الأمر الذي جر عليهم وبالاً مهولاً ولا يزال يمثل جرحًا غائرًا في النفسية والعقلية اليهودية، حتى بعد سيادة قوانين «معاداة السامية».. فهل هذا ما يسعى نفر من مسلمي أستراليا إلى محاكاته ومضاهاته، ونحن في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟
لا يمكن التذرع بتصريحات داتون، سيما أن هناك أصواتًا أسترالية أكثر عدلاً وموضوعية تجاه المهاجرين منها ريتشارد دي نتالي زعيم حزب الخضر، الذي دعا تيرنبول لأن يصرف داتون عن منصبه، وقد طالب نتالي نفسه برفع عدد اللاجئين السنوي الذين تستقبلهم البلاد إلى 50 ألف شخص.. فهل يفضل مسلمو أستراليا أن يوضع قدامى المهاجرين وجُدُدهم في أحياء سكنية على أطراف المدن الكبرى؟ هل نسعى نحن للعنصرية والتمييز بأنفسنا، ونحسبها حماية لنا ولأولادنا من بعدنا؟
فكرة «حيّ المسلمين» على أطراف ملبورن، فكرة خطيرة وهدامة وتعطي لليمين العنصري في أستراليا فرصة ذهبية لاتهام المسلمين هناك بأحادية الذهن والتوجه، وعدم المقدرة على الاندماج الخلاق والفعال في المجتمع الأسترالي الجديد، وتؤكد، بل وتشجع انتشار المخاوف من الجاليات العربية، التي قد تجد أنفسها عما قريب في وضع مشابه لأوضاع اليابانيين في الولايات المتحدة بعد حادثة «بيرل هاربور».
الخطورة القاتلة في الطرح الذي نحن بصدده، تتصل بديمومة التمحور حول الهوية الدينية التي عاشت في انفتاح على ثقافات وأعراق أخرى، منها ما هو عربي أصيل، ومنها ما هو مستعرب طوال أربعة عشر قرنًا.
والعيش في «الغيتو» في كل الأحوال، يعنى أننا غير قادرين على بلورة وفهم والتعاطي مع فكرة المواطنة الأساس الحديث لبناء الدولة العصرية، ويبدو أننا ننقل معنا إلى المهجر أمراض الأوطان المزمنة، التي قادتنا إلى ما نحن فيه ماضون ومن أسف.
علاج اليمين الأسترالي ومن لفّ لفه، مزيد من الاندماج من قبل العرب والمسلمين في كل حي وشارع ومدينة أسترالية، لا الانعزالية المقيتة، الاندماج الذي ينظر لأستراليا على أنها وطن، وللأرض برمتها على أنها مسجد لله، «جعلت لي الأرض مسجدًا».. هناك من سيبادر لرسم صورة عنصرية للمسلمين، إن اختاروا هم أن ترسم صورتهم داخل «الغيتو».