مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

حركة رجولة

في الغرب، هناك حركة نسوية قوية. أما في مصر، فنحن نحتاج «حركة رجولة» بعد ما شهدنا ردة فعل مجتمع بأسره على تعرية سيدة قبطية في محافظة المنيا، وسحلها. وهنا أنا جاد جدًا في الدعوة لـ«حركة رجولة»، على غرار الحركة التي قادها الشاعر الأميركي روبرت بلاي (المولود عام 1926 في ولاية منسوتا الأميركية)، مؤلف كتاب Iron John: a book about men، في سبعينات القرن الماضي، تلك الحركة التي تستلهم أعمال عالم النفس السويسري كارل يونج، والتي تدعي أن الرجولة مكون كامن في اللاوعي، في الظلال المظلمة، ويجب أن نستخرجها للقيام بدورنا كرجال وكآباء تقع عليهم مسؤوليات، وليس مجرد ذكور كذكور الوعل.
لدينا في العالم العربي عموما، ومصر خصوصا، ممارسات ومؤشرات للذكورة، من سلوكيات بيولوجية كالتحرش والبلطجة، ولكنا لدينا شحّ شديد في قيم الرجولة (الشهامة والفروسية ونصرة المظلوم...إلخ) التي تحتاج إلى تنظير جديد في عالم يتمتع بالسيولة، وتختلط فيه ميوعة الرجال بما يشبه سلوك الإناث، ولا أقول النساء.
نحتاج إلى شيء أقرب لممارسات الإخوة في دول الخليج، عندما يذهبون إلى البر، أو الخلاء، في تجمع ذكوري، أو في رحلات صيد، ولكنني لا أدعي دراية كاملة بهذه الظاهرة، رغم انخراطي بها أكثر من مرة، إذ لم يتضح لي بعد إن كانت للتأكيد على قيم الرجولة، أم هي مجرد نزهة (picnic) من نوع مختلف، رغم أن مؤشراتها الأولية تعد بداية طيبة لتعلم قيم الرجولة.
فكرة الشاعر الأميركي روبرت بلاي كانت قريبة من فكرة الخروج إلى البر، والتواصل مع الرجل الأول في داخلنا، أو ظلالنا الداخلية على طريقة عالم النفس يونج، وفكرة اللاوعي، ولكنه أضاف إليها منظومة قيمية حاكمة لمعنى الرجولة تقترب مما نتشدق به - ولا نراه - من القيم العربية، مثل الفروسية والشهامة وغيرها من قيم النبل التي تلوكها الألسنة في أحاديثنا، ولكنها تختفي في لحظات الجد والحاجة. فكرة التعرف على ظلالنا ليست فكرة يونج فقط، ولكنها أيضًا ذكرت في القرآن الكريم، رغم أن معظم تفسيرات الآية كانت حرفية إلى حدّ كبير. يقول تعالى في سورة الرعد (الآية 15): «ولله يسجد من في السموات والأرض، طوعا وكرها، وظلالهم بالغدو والآصال».
الظلال هنا في معناها الأعمق هي مستوى من مستويات الوعي التي شرحها يونج، وبالتالي تأخذ الآية أعماقا وأبعادا أخرى. والله أعلم. المهم أن فكرة الرجولة أيضًا لها أعماقها الحضارية والفلسفية التي تأخذنا من عالم القوة الغشيمة والبلطجة إلى عالم قيم الرجولة.
ما يؤلمني، كرجل صعيدي، في حادثة تعرية سيدة متقدمة في العمر، في شوارع محافظة من محافظات الصعيد، أن ما تبقى من شيم المجتمع الصعيدي ذي النخوة كاد يذوب، أو يتحلل، مع الوقت. كان المصريون يرون في الصعيد خزانا لقيم الرجولة، وحادثة المنيا هزت قناعة وطنية فيما يخص قيم الفروسية والنبل والشرف.
هناك أسئلة كبرى تخص النقد الحضاري بمعناه العميق، أو السوسيولوجي الاجتماعي الذي طرحه الدكتور جلال أمين في كتابه «ماذا حدث للمصريين؟»
هذه ليست حادثة التعرية الوحيدة التي حدثت لامرأة مصرية، فقد كتبت مقالا منذ خمس سنوات في هذه الصحيفة، بعنوان «من الذي تعرى في مصر؟»، («الشرق الأوسط»، 25 ديسمبر (كانون الأول)، 2011). إذ وصمها المجتمع بأوصاف لا يليق ذكرها هنا، وتحدثت التلفزة عن ألوان ملابسها الداخلية بلا حياء. مجتمع يلوم الضحية، لا الجلاد. النقطة هنا ليست إنتاج الظلم، بل وجود شهية لدى المجتمع لتقبل ممارسة الظلم على الآخرين. مجتمع قادر فقط على نقد المظلوم، ويصيبه الخرس عند نقد الظالم.
حادثة سيدة المنيا - تلك المرأة التي لو رأيت صورتها، خلتها خارجة لتوها من أحد معابد أبيدوس الفرعونية القديمة، بسبب الملامح وصرامة عظام الوجه - كلها تكشف أننا أمام ثقافة تتعرى كما البصلة، رقيقة تلو الأخرى، وكاد يصل التعري إلى الجوهر.
ينتقد بعض المصريين ما يسمونه الديكتاتورية السياسية في مجتمعهم، ولكن حتى الديكتاتورية كنظام سياسي لها أصول يكون فيها النظام حاميا للشرف الوطني، أو ملتحفا بقيم الشرف. الديكتاتورية ليست شرا مطلقا ما دامت مصنوعة حسب معايير «الديكتاتوريات المحترمة»، إذ يبدو أننا أصبحنا عارا على الديكتاتورية نفسها.
حركة الرجولة التي أدعو إليها هنا لا تنتمي إلى نظام سياسي بعينه (ديمقراطي، أو ديكتاتوري، أو مشيخة)، إنما هي حركة تدعو إلى قيم الشرف والمسؤولية الاجتماعية التي يبدو أنها باتت تتلاشى من بين أيدينا كالرمال، قيم تحتاج إلى تنظير جديد حول ثقافاتنا الوطنية.
يتحدث المصريون عن حركة البناء في المجتمع، من كبارٍ وطرق وعمارات، ولكن الذي نحتاجه الآن هو إعادة بناء الشخصية المصرية. يجب علينا أولا تتبع تاريخ الشخصية المصرية، وقيمها الاجتماعية التي تمثل الأسمنت الذي حافظ على حضارة متماسكة عبر آلاف السنين. وإذا ما فكّ هذا الأسمنت تماما، فنحن أمام حالة انهيار المجتمع قبل انهيار الدولة، وذلك لعمري خطب جلل. إن خروج الجانب المظلم في الثقافة المصرية إلى السطح بهذا الفجور الذي يدعو عشرات من الذكور، في المنيا لتعرية سيدة قبطية متقدمة في السن، لهو أمر خطير يتطلب وقفة مع النفس، من أعلى قيادة إلى أصغر عاقل في هذا الوطن. في حالة سيدة المنيا، نظرت إلى الجبن فوجدته يشبهنا تماما، لذا أدعو إلى «حركة رجولة».