محمد مصطفى أبو شامة
كاتب وصحافي مصري
TT

«كوابيس» منتصف العمر

(1)
جلس شاردًا يبحث عن تفسير لأحلامه الأخيرة.. (كوابيس) مرعبة.. احتوت مشاهد لم تصادفه في كل أحلام العمر.
صار يقفز كل يوم مفزوعًا ويداه ملطختان بالدماء، وجثث القتلى تطارده.. يبحث عن زجاجة ماء كانت بجوار رأسه، فيكتشف أن صغيره قد نهض قبله مفزوعًا بعد أن طارده (تمساح) وحاول أن يلتهمه.. وأن الطفل تجرع كل الماء ولم يترك له سوى زجاجة فارغة، وتمساحه (الضخم) يحملق فيه وينظر بشراسة لعشرات الكتب الملقاة على الأرض بجوار فراشه.
لم يتوقف التمساح الأخضر ذو الرأس الأسود كثيرًا أمام الأسماء؛ لم يقدر نجيب محفوظ أو علاء الديب أو هيكل، قبل أن يلتهم كتبهم، ويتحرك في الغرفة منتشيًا بانتصاره، وكلماتهم تتساقط بين أسنانه اللامعة.
وفجأة يتدلّى التمساح مزهوًّا من الشرفة وينفجر بطريقة (داعشية) في الهواء كبالون، ملقيا بجسده وسط الجموع المحتشدة في شارع (الثورة)، و دماؤه تتطاير.. تلطِّخ كل الوجوه.
يستيقظ كعادته مفزوعًا ويحتضن الصغار وبقايا الكتب المحيطة به.
ويدرك أنه لا نوم (بعد اليوم) في هذا الزمان.

(2)
ينقطع النور فجأة..
يحرمه من لحظة توهج عقلي صادفته بعد طول انتظار..
ينطفئ توهُّجُه وينسحب أمام الضوء الخافت للشمعة (الموفرة) التي أجبرته زوجته (الحكومة) على إشعالها.. لم يناقشها فقد وصل إلى مرحلة الانصياع الكامل..
لا يجادل ولا يناقش.. وهي أيضًا مثله..
أصبحا يفعلان ما يؤمران به:
● من أحدهما للآخر..
● من أبنائهما..
● من مديريهما..
● من حارس العقار..
● من الطبيب المعالج..
● من بائع الفول..
يفعلانه بتردد وتمهل، لكنهما يتجنبا سوء العاقبة.. واحتمالات الخسارة.
مر الوقت سريعًا وكلاهما صامت..
حتى ذاب جسد الشمعة (الموفِّرة)..
بخل عليهما حتى بالبصيص الباهت..
تركتهما للظلام الطويل..
لم يشعر (هو) برحيلها.. واختفاء (هي) من جواره.
حاول أن يقف فاكتشف عدم وجود ساقه..
فكر أن يتحرك.. ولم تجد الفكرة أي (قناة) للتنفيذ..
شعر باختناق ونقص في الهواء..
تذكر الماء وتمنى رشفة تُبلِّل جفاف حلقه..
وفجأة تنبه على مفاجأة..
عودة (النور) للمرة الأخيرة
والشمس تودعه بأشعتها وحرارتها..
حتى انصهر..
وتلاشى وجوده..
وانتهى.

(3)
وقف ينظر إلى (الملتحي) نظرة مترددة..
صافحه واختطف أصابعه سريعًا، قبل أن يتملكها خصمه اللدود ورفيق أيامه الجديد.
الحياة في الصحراء تحرمك من كل فرص الاختيار..
لا ديمقراطية مع العَرَق والحرارة والرمال الممتدة كسجن أبدي لا تدركه أبدًا أشجار الحرية.
كان رفيقه السابق (حليق اللحية)، عندما يمرض أحدهما يكون الآخر طبيبًا يمرضه، وأنيسًا يخفف ألمه، وجليسًا يسهر على راحته، ما لم يتخيله كلاهما، هو كيف سيواجه أي منهما موت اﻵخر؟ وقبل أن يجدا الإجابة كان الموت قد نزل ضيفًا عليهما في صحرائهما، واختطف من اكتملت قصته.
حزن بشدة على صديقه القديم..
وترك لحيته تطول.. وصار (ملتحياً)..
لهذا لم يعرف نفسه عندما وقف أمام المرآة..
وظل يردد عبارته الشهيرة: «قسوة الصحراء تصنع الرجال وتقتل الأحلام».

(4)
استيقظ مفزوعًا بعد أن ظنّ تأخره عن موعده (المصيري).. تلفت حوله يبحث عن (منبه) واطمأن عندما اكتشف أن الوقت لا يزال مبكرًا.
حاول أن يعود للنوم لكن ازدحام رأسه بالأفكار حال دون ذلك، نهض وجلس إلى أوراقه وأعاد مراجعة ما كان ينوي أن يناقشه مع (الرجل الكبير) من مشكلات وهموم..
* عن مشروع الدولة الوطنية
* وأسس الحياة السياسية والديمقراطية السليمة
* تخبط الاقتصاد بين أزمات الدولار وارتفاع الأسعار
* القلق المستمر فيما يتعلق بحقوق الإنسان
* والشفافية بين الدولة والشعب
ثم نظر إلى أوراقه نظرة وداع يائسة قبل أن يمزقها..
انتبه إلى (هزة) من مضيفة الطائرة، تخبره أن الطائرة أقلعت أخيرًا من القاهرة في طريقها إلى باريس.. وتسأله عن الطعام الذي يفضله.

(5)
تذكر كلمات أنيس منصور..
استدعتها اللحظة من أرشيف ذكرياته: «عندما تركب الطائرة، فإنهم يطلبون منك قبل الإقلاع أن تربط الحزام، وأن تعتدل في جلستك.. لماذا..؟ لأن الطائرة سوف ترتفع.. وكل من يريد أن يرتفع في عمله وفي فنه، لا بد من القيود، لا بد من التضحية.. وإلا فلن يرتفع».
كان يربط حزام مقعده في الطائرة استعدادًا للعودة إلى الوطن، وداخله شعور بالسعادة ارتبط به مع كل رحلاته الجوية. كان السفر بالطائرة.. يمثل له بداية جديدة مع النجاح والصعود والترقي.
وثق بالله دائمًا فصدق له وعده، ومنحه من نعم الدنيا ما جعل حياته كريمة..
وكانت الطائرة ورحلاتها عنوانًا للسعادة ومفتاحًا لكل جميل وجديد في حياته.
ثقته بالله جعلته يبتسم راضيًا، عندما دوّى الانفجار..
وحرمه من سعادة الوصول إلى (المطار)..
لقد فرَّت روحه مسرعة من جسده عائدة إلى بارئها مودعة الدنيا، إثر حادث (الطائرة المصرية) المقبلة من باريس، الذي حير العالم وتجلت الرؤى والحيل لمعرفة أسبابه.
وهي حيرة لما تصادف من غادروا الحياة في الهواء، قبل أن تلامس أجسادهم الماء، ولا واجهت من شقي من ذويهم على الأرض..
كفانا الله وإياكم شر الأخطار.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.