نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

ليست أزمة صحافة في لبنان

بعيدًا عن الرثائيات الممجوجة كلما أفل نجم ما في لبنان، ثمة في أزمة الصحافة اللبنانية، واحتمالات موتها، ما يتصل بمقتل شيء رئيسي في هذا البلد ودوره وموقعه.
العادة أن يستدر الأفول، أكان شخصًا أو قطاعًا أو مكونًا سياسيًا أو أي شيء آخر، حفلة ندب ونحيب وتفجع على «الزمن الجميل» الذي كان مرة «زمنًا سيئًا» لأبناء زمن جميل قبله، وهكذا دواليك!
سيرة الصحافة في لبنان، وسيرة زمنها الذهبي، ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بلبنان الساحة المفتوحة لصراعات المنطقة، التي كان الإعلام اللبناني ورياديته، ومساحة الحرية القاتلة في لبنان، أبرز أسلحتها وأشدها فتكًا وتدميرًا!
تضخمت ساحة هذا البلد الصغير، وبالغت في الانفتاح، حين تقلصت الساحات الكبيرة، وبالغت في الانغلاق. كان لبنان عراقيًا بالوكالة، وسوريًا بالوكالة، وفلسطينيًا بالوكالة، وخليجيًا بالوكالة، وليبيًا بالوكالة، وأميركيا، وإسرائيليًا، و... و... بالوكالة!
وعبر هذه الوكالات، ازدهر إعلام لبنان، ونشطت صحافته، وأنتجت البلاد أسماء ونجومًا وأساطير، كمؤسسات وكأفراد، من النهار العربي والدولي إلى مجلة الحوادث، ومن غسان تويني إلى كامل مروة وما بينهما، وقبلهما وبعدهما. وعبر هذه الوكالات، كانت الصحافة تدفع ضريبة بالتناسب مع ضخامة الدور والتأثير.
يروي وزير الخارجية اللبناني الراحل فؤاد بطرس، في مذكراته، تفاصيل مذهلة عن المداولات اللبنانية السورية، منتصف سبعينات القرن الماضي، تشي بحجم خوف نظام حافظ الأسد من الإعلام اللبناني، لدرجة تصنيفه كخطر على الأمن القومي لسوريا الأسد.
وهي عبارة سترد في سياق المداولات اللبنانية السورية، مطلع تسعينات القرن الماضي، بين الضابط غازي كنعان ومفاوضيه اللبنانيين حول «معاهدة الأخوة والتنسيق»!
ليس بغير دلالة أن أولى المهمات السورية في لبنان، حين دخل جيش حافظ الأسد إليه، كان احتلال القوات السورية والاستخبارات مكاتب صحف «المحرر» و«بيروت» و«الدستور» و«السفير» و«النهار» و«الأوريون لوجور». وحين تشكلت أولى حكومات الاحتلال السوري للبنان، كان أول مرسوم صدر عن الحكومة يقضي بفرض الرقابة المسبقة على الصحف.
وفي مطلع انتفاضة الاستقلال عام ، ولم تكن انفتحت الساحات المفتوحة اليوم في العالم العربي، قتل اثنان من أبرز وأشجع صحافيي لبنان، سمير قصير وجبران تويني، والاثنان من أسرة «النهار»!
لم يختلف اغتيالهما في سياقه عن الاغتيالات الكثيرة التي سبقت في كونه «أعلى درجات الرقابة» التي تفرضها أنظمة مجرمة تحاول حماية روايتها عن الأحداث، ووجهة نظرها، من أي تشويش أو شغب! وكان لبنان لا يزال البلد الذي ينوب عن خيارات كبيرة في المنطقة، أو الساحة التي تتمظهر فيها هذه الخيارات. وهذا دور ظلم لبنان نفسه به، وظلمه أشقاؤه العرب.
انتهى هذا اللبنان، يوم اندلعت الثورة الكبرى في سوريا، وكانت قد بدأت تباشير انتهائه مع انفتاح الملعب العراقي أمام أجهزة الاستخبارات والإعلام والميليشيات والجيوش. فقد البلد الصغير وظيفته وإغراءه، وراح يتآكل رويدًا رويدًا، ولم يبقَ منه ما يستحق الورود في الإعلام إلا كونه منطلقًا لميليشيا تفوق في أوهامها الأوهام التي نُسبت للبنان قبلاً!
فبعد أربع سنوات من انخراط حزب الله في الحرب السورية، يتضح للحزب وبيئته أن المطلوب منه فقط إحصاء القتلى والمضي في بذل الدماء ريثما يقرر الكبار مستقبل سوريا، ومستقبله فيها. من المفيد التذكر أن الأمين العام لحزب الله أعلن أكثر من مرة «انتهاء الحكاية» في سوريا، أو اكتمال المهمة، بحسب العبارة الشهيرة عن العراق التي جعلت من الرئيس جورج بوش مسخرة المساخر! حدث ولا حرج عن نصر الله.
حزب الله هو، بمعنى من المعاني، وريث الإعلام، أي الوريث الأخير لأوهام الأدوار الكبيرة لهذا البلد الصغير، وهو يكتشف اليوم أنه مثلما لم يعد أحد بحاجة إلى لبنان، إذاعة العرب وتلفزيونهم وصحيفتهم، لم يعد أحد بحاجة إلى «ميليشياه» التي لا تقهر!
في أفول الصحافة الكثير من أفول لبنان، وارتباك قواه السياسية عن إيجاد دور له، نتيجة الاعتياد المديد على أدوار خارجية لا يريد أحد إعطاءه إياها. وهنا ملاحظة مهمة للكاتب فيليب مانسل، في كتابه الرائع «المشرق»، إذ يقول إن اللبنانيين يمارسون لعبة إغراء الخارج للتدخل الدائم في شؤونهم!
فلا البلد رسالة، ولا هو صندوق بريد. ليس رسالة وهو يعيش أعمق انقساماته المذهبية، ويغرق في شعبوية سياسية مريضة، وليس صندوق بريد يمر عبره، إعلامًا وسياسةً، ما يسهل تمريره في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وغيرها من الملاعب المفتوحة!
أزمة الصحافة هي أزمة البلد في علاقته مع نفسه، وفي عدم شجاعة معظم طبقته السياسية، ونخبته، على مصارحة النفس بأن المخرج هو التواضع، تواضع لبنان واللبنانيين، وتواضع أدوارهم، والالتفات إلى بلد يستطيعون فيه جمع النفايات، وتنظيم السير، وتقليص الفساد، وحماية أطفالهم من الموت المجاني برصاص طائش، أطلقه فتية متحمسة في جنازة، أو عائلة فخورة بنجاح فرد منها في الشهادة المتوسطة.
جنازة الصحافة، هي جنازة دور لا يريد أحد دفنه، والبحث عن دور آخر للوطن الصغير.