عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

كيف تجتاز الصحافة الورقية أزمتها؟

كالغريق الذي يتعلق بالقشة، يتمسك البعض، خصوصًا في العالم العربي، بأن التحول لمواقع إلكترونية هو الحل لأزمة الصحافة الورقية التي تمر بأوقات صعبة في العالم كله تقريبًا، بسبب تراجع التوزيع والدخل الإعلاني، وارتفاع تكاليف النشر، والأهم من ذلك تأثيرات الإنترنت، وتغير عادات القراءة، وتزايد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وبروز أجيال جديدة تربت على الفضاء الإلكتروني بكل مكوناته. التحول للنشر الإلكتروني قد يكون جزءًا من الحل، لكنه بالتأكيد ليس وصفة سحرية نهائية، بالذات في العالم العربي، حيث يواجه الإعلام كله، ومنه الصحافة الورقية، منذ فترة طويلة أزمات هيكلية حقيقية، وتحديات كبرى، بدءًا من قضية التمويل، مرورًا بتحدي المحتوى والمضمون، وانتهاء بأزمة القراءة التي تبدو اليوم أفدح وأخطر في عالمنا منها في أماكن أخرى.
لا يكاد يمر شهر من دون أن نسمع عن أزمة مالية تواجه هذه الصحيفة أو تلك، أو عن تلويح بتوقف صحف كانت معالم بارزة في بلدانها وأحيانًا في المنطقة ككل. ففي الشهر الماضي سلطت الأضواء على الواقع المرير الذي تمر به الصحافة اللبنانية، عندما أعلن عن أن صحيفة «السفير» ستتوقف عن الصدور بسبب الضغوط المالية. ورغم أن الصحيفة لم تتوقف نهاية الشهر الماضي كما كان متداولا، بعد «حل مؤقت» لمشكلة التمويل، فإن الأزمة باقية، لا في الصحف وحدها، بل أيضًا في عدد من القنوات التلفزيونية التي تواجه بدورها ضغوطًا مالية، اضطرتها إلى التأخر في صرف رواتب العاملين، أو صرف بعضهم.
في مصر أيضًا تواجه الكثير من المؤسسات الصحافية أزمات مالية خانقة وسط تقارير تشير إلى أن توزيع الصحف هناك تراجع من 4 ملايين نسخة يوميًا إلى أقل من 250 ألف نسخة. بعض الصحف وجدت نفسها عاجزة عن مواجهة الضغوط المالية، فأوقفت طبعاتها الورقية مكتفية بمواقعها الإلكترونية، بينما قلص بعضها عدد العاملين، وفشل بعضها في الإيفاء بدفع رواتب العاملين لعدة أشهر أحيانًا. هنا أيضًا لا تقتصر الأزمة على الصحف وحدها، بل تمتد أيضًا إلى الكثير من القنوات التلفزيونية. فجزء مهم من الأزمة يتعلق بتراجع التوزيع أو المشاهدة، وتقلص الدخل الإعلاني، لكن هناك جانبا آخر يتعلق بأن عددًا من الصحف والتلفزيونات الخاصة لم تقم على أسس تجارية صحيحة، وإنما لخدمة ملاكها من رجال الأعمال ومصالحهم، مما عرّضها للكثير من الضغوط والتجاذبات. وبالنسبة للصحف، فإن التحول لمواقع إلكترونية لن يكون حلاً لمشكلة جوهرية كهذه.
النشر الإلكتروني يوفر للصحف جزءًا من التكاليف سواء من حيث تقليص عدد العاملين، أو فيما يتعلق بالميزانيات التي كانت تذهب للطباعة وشراء الورق وأحبار الطباعة وماكيناتها، أو تلك المتعلقة بالتوزيع والشحن. لكن هذا كله لن يعوض عن المحتوى والمضمون، وهما التحدي الأساسي لأي عمل صحافي يريد أن يعيش ويصمد في زمن اشتدت فيه المنافسة بين الوسائط المتعددة في حقل الإعلام، وفي عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي ظل الثورة المعلوماتية الهائلة. فالذين يظنون أن مجرد الانتقال إلى الإعلام الرقمي والنشر الإلكتروني سيعني طوق النجاة، سيصدمون سريعًا، لأن تطوير المحتوى والتميز بالمضمون يحتاجان بالتأكيد إلى إنفاق واستثمار، وإلى تحديث عمل مطابخ التحرير وغرف الأخبار، وتطوير العملية الصحافية للتعامل مع تطبيقات الصحافة الرقمية المختلفة، والهواتف الذكية، والمنصات الأخرى المتنوعة.
المشكلة الأخرى أن المواقع الإلكترونية غير مربحة لكثير من الصحف حتى الآن، خصوصًا في العالم العربي. صحيح أنه في العالم الغربي بدأت بعض الصحف تحقق أرباحًا من مواقعها الإلكترونية، لكن هذه التجارب ما تزال في طور التمحيص والتطوير بحثًا عن النموذج الأمثل، والمعادلة التجارية الصحيحة. فهناك نسبة كبيرة من القراء الذين تعودوا على المحتوى المجاني ومن الصعب إقناعهم بالقراءة المدفوعة الثمن لمواقع الصحف على الإنترنت. كذلك فإن الدخل الإعلاني للمواقع الإلكترونية ما يزال متدنيًا مقارنة مع الطبعات الورقية للصحف والمجلات.
في العالم العربي هناك أيضًا مشاكل تتعلق بانتشار الإنترنت ووصولها إلى كل المناطق والناس، وكذلك بسرعتها التي تؤثر على سرعة التصفح وتحميل الصور أو الفيديوهات. أضف إلى ذلك أن هناك مشاكل في الدفع والتحصيل الإلكتروني، وهما ركيزة أساسية لنجاح وصمود أي عمل في مجال النشر الإلكتروني.
الصحافة الورقية تواجه تحديات جدية، ستؤدي للأسف إلى توقف بعضها عن الصدور، واكتفاء بعضها بمواقع إلكترونية، لكن هذا لا يعني إصدار شهادة وفاة للصحافة. فالصحافة باقية، لكن الوسائل تتطور، والصحف ستنتقل بالضرورة إلى مرحلة مختلفة وستمر بتحولات تتطلب الكثير من التكيف والإبداع للتعايش مع تحديات عالم الفضاء الإلكتروني بكل أدواته، وتغير عادات القراءة بمختلف أسبابها.. والتحدي سيكون دائمًا في توفير المضمون الذي يجذب الناس للقراءة، سواء كان ذلك على الورق أو على شاشات إلكترونية.