نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

هل ربح الأسد؟

كان في بالي أن أكتب المقالة الثالثة حول «لبنان المحتل»، والتي أردتها سجالاً مع الغضب الخليجي من الوطن الصغير، ومواقف وزير الخارجية في «تجمع حكومات لبنان» جبران باسيل. راودني أن يكون العنوان «لبنان المحتل محافظة إيرانية»!
فجأة بدا هذا العنوان غريبًا وبعيدًا وناقصًا. ثمة إقليم بكامله صار محافظة إيرانية. لبنان، العراق، سوريا، بالإضافة إلى استدراج الأردن بالترهيب إلى منطقة الحكمة التي تعطل دوره!
الخديعة الروسية في سوريا، والتي هي عمليًا رد فلاديمير بوتين على خداع الغرب له في ليبيا، انكشفت متأخرة عند أسوار حلب! غرفة العمليات الروسية السورية العراقية الإيرانية التي احتلت العناوين الإخبارية قبل أشهر بدت حقيقة واقعة! روسيا ماضية في مغامرتها ومعها، حتى إثبات العكس، إيران! أعترف أنني كنت ممن وقعوا في فخ التفكير الرغبوي بشأن أن روسيا ترث إيران في مغامرتها السورية، وأن مفاوضة روسيا في سوريا في نهاية الأمر أفضل الممكن، لا سيما في ظل الانسحاب الاستراتيجي الأميركي من الشرق الأوسط. غير أن الوقائع على الأرض، وقائع الخديعة الروسية، تلزمني إعادة حساباتي رغم ضيق الخيارات! وهذا الفخ نصبته موسكو عن سابق تصور وتصميم للعالم، وفق عقيدة منظمة يعمل الكرملين في ظلها، ومفادها أنه ما يهم في حروب القرن الواحد والعشرين هو قصة من التي ستفوز عن الحرب!
كذبة محاربة الإرهاب، التي ملأت بها موسكو عناوين الأخبار الدولية، ولا تزال، تشظت في معركة إسقاط حلب، عاصمة الثورة السورية، ومحاولة إعادة تسليمها لبشار الأسد! مع ذلك لا تزال هذه الكذبة تساهم في تشكيل رأي عام سياسي وصناعة سياسات حول العالم.
يكفي النظر إلى نتائج ولاية نيوهامبشير الأميركية التي فاز فيها المرشحان، دونالد ترامب ممثلاً يمين الحزب الجمهوري، وبيرني ساندرز ممثلاً يسار الحزب الديمقراطي! ما عبر عنه الرجلان حيال السياسة الخارجية الأميركية، وجزء مما صوت له ناخبو هذه الولاية، يتقاطع عند ما يريد بوتين للعالم أن يفكر فيه! لا بديل عن بشار الأسد إلا «داعش»، ما يجعل الأسد أفضل الخيارات الكريهة!!
وها هو بريت مكغورك المبعوث الأميركي للتحالف الدولي ضد «داعش»، يجزم أن الغارات الروسية قرب حلب تعزز «داعش بشكل مباشر». المعادلة البسيطة التي يغشيها بوتين بالدعاية السياسية وحرب المبادرات لا تزال كما هي: قصف روسي في سوريا يعزز مواقع «داعش» ويضعف الخصوم الحقيقيين للأسد، ثم وضع العالم أمام خيارين، إما «داعش» وإما الأسد!
ناخبو نيوهامبشير صوتوا لمن؟ في السياسة الخارجية، اختاروا الأسد!
المفارقة أن هذه النتيجة تعبر عنها بشكل علني جهات مهمة داخل الاستخبارات الأميركية من دون أن يكون لها أي أثر يذكر في سياسة واشنطن حيال الأزمة الروسية، وبقاء الأسد، ووقوع المشرق تحت وصاية مشتركة بين موسكو وطهران.
خلال جلسة استماع أمام مجلس الشيوخ الأميركي يوم الثلاثاء الفائت قال الجنرال ستو فنسنت، رئيس وكالة الاستخبارات العسكرية، إن العملية الروسية في سوريا غيرت المعادلة بشكل كامل، وإن الأسد بات في موقع تفاوضي أقوى مما كان عليه لستة أشهر خلت، بل إنه سيظل لاعبًا على المسرح لفترة أطول مما بدا العام الفائت!
تختصر تفاصيل هذا المشهد حجم العدوان على عالمنا العربي، وحجم التآمر على شؤونه الداخلية، بدءًا من تغذية إيران الميليشيات المسلحة مرورًا باعتراضها على حكم قضائي هنا أو استثمارها في حادثة مؤسفة هناك، وصولاً إلى أننا ندفع ثمن الخديعة الروسية وحسابات بوتين في مواجهة أوباما وابتزاز أوروبا من بوابة اللاجئين الذين تنتجهم حربه في سوريا.
وفي مواجهة هذا العدوان لا نملك إلا حلولاً عربية إقليمية، تواجهها هي الأخرى جبال من الصعوبات. لا قيامة لأمن إقليمي من دون مصر والسعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة. وهذا تحالف يمنع ملف الإخوان المسلمين ولادته، حتى الآن!
لنعترف بتوصيف مزعج. الحريق المندلع في الإقليم ليس حريقًا سنيًا شيعيًا وحسب. هو في مكان ما حرب أهلية سنية سنية، قوامها ثلاثة أطراف بتفاوت: الحكومات الشرعية، الإخوان المسلمون، و«داعش» و«النصرة» ومشتقاتهما من التنظيمات المتطرفة السنية! كل اللاعبين في الإقليم يلعبون بهذه الأوراق ومعها! وهي نفسها تسمم قدرتنا على تفعيل قدراتنا الدفاعية والهجومية. لندع التنظيمات الإرهابية جانبًا، من يملك شجاعة المصالحة لتغيير قواعد اللعبة؟ قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز كلامًا حاسمًا مخاطبًا ضيوف المهرجان الوطني للتراث والثقافة الذين التقاهم في قصر اليمامة بالعاصمة الرياض.. «كما نحرص على أن يعم الأمن والسلام منطقتنا، من حقنا الدفاع عن أنفسنا. من دون التدخل في شؤون الآخرين، ندعو الآخرين إلى عدم التدخل في شؤوننا».
يطمئن من يسمع هذا الكلام، ومن يؤمن بالدور التاريخي لسلمان الحزم في الدفاع عن «دولة العرب»، ويراهن، بلا مبالغة، أن أول شروط منع التدخل في شؤوننا هو سد الشقوق، وتمتين قاعدة صلبة تنهض عليها عمارة استراتيجية جديدة لأمن الإقليم.