نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

ما الذي تغير؟

المحرج في هذا السؤال أن الذين يطرحونه ببراءة وحسن نية جمهور واسع في مصر وتونس، ولا يخلو الأمر من وجود قوى ذات أجندات تضع جوابا من كلمة واحدة.. «لا شيء»، وهنالك من يتجاوز اللاشيء هذه بوصف ما جرى ويجري في البلدين على أنه تراجع عما كان في العهدين السابقين، ولا يخلو الأمر في تونس ممن يقول: «سقى الله أيام زين العابدين بن علي».
الرئيسان السيسي والسبسي يواجهان مزاجا شعبيا متسرعا في رؤية جمهورية فاضلة، تخلصت من كل مثالب الماضي، ودخلت عقب الثورة مرحلة مناقضة تماما لما كانت الأمور عليه في عهدي مبارك وزميله في القدم بن علي، والمزاج الشعبي في حالة الاثنين لا يتغير ويتبدل بالحوار والإقناع أو مطالبة الجمهور بمزيد من التعمق في قراءة الواقع وتحليله، ذلك أن المزاج الشعبي في بلادنا هو مزاج استهلاكي سطحي تنتجه دائما معطيات الوضع الراهن ومقارنة هذا الوضع بالأحلام والأمنيات.
أسمح لنفسي هنا أن أخصص مصر في المعالجة وبعين المراقب، من داخلها ومن خارجها، فإنني أرى تغييرا كبيرا وأساسيا حدث في هذا البلد، وأهمه إنقاذ الدولة المصرية ومؤسساتها من خراب لو تحقق لصار الوضع في مصر مثلما هو عليه الآن في أربع دول عربية، دخلت جميعا في حمامات الدم، وصار أفضل مصير لها ما كان يعتبر كبيرة الكبائر وهو التقسيم، وعلينا أن نعود بالذاكرة إلى تلك الحقبة المرعبة في حياة مصر ما بعد ثورة يناير، حين خلت الشوارع والأحياء والمرافق العامة من حرّاسها، واضطر المواطنون ولأول مرة في تاريخ بلدهم المديد أن يتناوبوا على حراسة بيوتهم بأنفسهم، حيث لم يكن في مصر كلها شرطي واحد يؤدي عمله، وخلال السنة التي سجلت باسم الإخوان ومرسي والقرضاوي، فماذا كان سيحدث لو استمر هذا العهد سنة أخرى أو سنتين أو أكثر.
المصريون، وأولهم من يقول لا شيء تغير، يعرفون حجم الخطر لو لم يتم التغيير وبالطريقة الجراحية التي تم بها.
إن جملة «لم يتحقق شيء» يمكن أن تكون واقعية وصحيحة، لو أن مصر لم تُقحم في تحدي الإرهاب، بل ولم تكن في عين العاصفة، لأن الذي بدأ في تونس لتكون مصر ليس الحلقة الثانية، بل الحلقة المفصلية والحاسمة في الأثر الاستراتيجي.
وبوعي هذه الحقيقة يمكن أن نقيم بإنصاف ما حدث في تونس ومصر، إنه بالضبط التحول التاريخي الذي لا تحتسب إنجازاته بمنطق اللمسة السحرية والجزئيات اليومية، فما زرعه شعب مصر في يناير (كانون الثاني) ويونيو (حزيران) وما أقدم عليه جيش مصر وقائده السيسي، هو بداية التغيير وليس نهايته، وإذا ما تابعنا مسيرة المشاريع الكبرى الواعدة في مصر، فليس منطقيا محاسبتها في اليوم التالي لوضعها على الورق أو لإبرام اتفاقيات مع دول محترمة لإنجازها، كما ليس منطقيا محاكمتها بمقاييس الأحلام والتمنيات بينما هي تشق طريقها في أرض وعرة قوامها تراكمات سنين طويلة من الجمود والفساد والانهيارات، فما أصعب توقع نتائج سريعة لجهد يتم في زمن الحرب الضروس على جبهات عدة عنوانها الإرهاب، ومضمونها تآمر تشارك فيه قوى كونية، لجعل مصر نسخة عن الدول الفاشلة في العالم العربي، فلو كانت مصر مثلها، لكان الشرق الأوسط كله نسخة طبق الأصل عنها، ذلك لا يعني أن التجربة خالية من العيوب، ولا يعني أبدا أن مصر بكل مكوناتها العريقة والعميقة منخرطة تماما في طريق واحد ونحو هدف واحد، ففي داخلها ما يشد إلى الوراء وفق اجتهادات بعضها تراوده أحلام وطنية صافية مشروعة، وبعضها الآخر تراوده أوهام أجندات مركزها سجن مصر داخل أسوار من الانعزال والانكفاء والغرق الأبدي في دوامة لا نهوض منها.
مما تحتاجه مصر الآن، كما يراه محبوها ومن تعلقت مصائرهم بمصيرها، كثير من الصبر، وكثير من رؤية التحديات على حقيقتها، وكثير من حشد الطاقات البناءة في مجرى واحد تستحقه الدولة العبقرية، وما ينطبق على مصر ينطبق على شقيقتها وجارتها تونس، بل وينطبق علينا جميعا في وطننا العربي الكبير.