سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

بغى وطغى واسترق

يُقال في أدبيات الغرب إن البغاء هو أقدم «مهنة» في الأرض، لكن ما هي «المهنة» الأكثر قسوة وإذلالاً؟ هل هي البغاء أيضًا؟ أفكر أحيانًا، وأنا أقرأ في تاريخ أفريقيا، أن الاستعباد هو السوء الموازي. وعندما يأتي حديث العبودية يخطر على الفور تاريخ التمييز العنصري في أميركا أو جنوب أفريقيا. الحقيقة، لا. لقد ربطنا التمييز بالولايات المتحدة بسبب حجمها الدولي والإعلامي. غير أن أرسطو وأفلاطون كانا يحيطان نفسيهما بالعبيد.
وروما كانت تسخّر العبيد البيض في جميع أنحاء الإمبراطورية. والذي بدأ العبودية في أفريقيا قبل ألفي عام كان تجّار الرق الأفارقة. وهم الذين كانوا يخطفون الأولاد من أهلهم ويشحنونهم، يومها، إلى الجوار العربي. وعندما ثارت زنجبار على السلطان، كان عربيًا.
جميع القوى الاستعمارية مارست العبودية بأبشع أشكالها. روما وبريطانيا وألمانيا وغيرها. وأدب الرحلات الألماني مليء بالكره العنصري للسود. وتشرشل نفسه كان ينصح باستخدام السلاح الكيماوي ضد المتخلفين منهم. إلا أن الظلم الأكبر يظل ظلم ذوي القربى. الأفريقي للأفريقي، والأبيض للأبيض. تلك هي الرداءة في طبائع البشر. فالحروب الأقسى هي الحروب الأهلية.
وقد خسرت أميركا في حربها الأهلية الكبرى أكثر مما خسرت في جميع حروبها الخارجية. والفظاعات التي ارتكبها اللبنانيون والسوريون والعراقيون في حروبهم الأهلية حيال بعضهم البعض، لم يعرف مثلها في أي حرب مع الخارج. الجريمة التي يرتكبها الإنسان في حق «أخيه» هي الأكثر مجانية وقسوة. في السرقة وفي الاستغلال وفي الاستثمار يبحث الإنسان عن ضحاياه أولاً بين «إخوانه».
الحروب الطاحنة في اليمنين وقعت بين «الرفاق» و«الإخوة». وضحايا ستالين من الروس كانوا أضعاف ضحايا النازيين. وضحايا الحرب الأهلية الإسبانية كانوا أضعاف ضحايا إسبانيا في الحروب الخارجية. والنزاع بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية كان أعتى وأعمق من أي نزاع آخر.
وتستمر إلى اليوم حرب حاقدة بين كوريا الشمالية، حيث الفتى المبجل، وكوريا الجنوبية. لا عرق يفرق بينهما ولا دين ولا تاريخ ولا أرض. لكنه الإنسان، ذلك الذي بغى وطغى واسترق.