نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

أوباما في عين العاصفة

من يصدق أن الذي يجري في أميركا كان محسوبا أو متوقعا أو حتى متخيلا؟
ولهذا الذي يجري حكاية تكرس في وعي العالم، وخصوصا في القرن العشرين، قرن الحروب الكونية والإقليمية، وقرن سباق التسلح المرير والمكلف بين القطبين، وقرن الطفرة التكنولوجية التي فاقت الخيال.
تكرس في وعي العالم أن الرئيس الأميركي هو الأقوى في كل الظروف، وهو صانع العواصف، ومحدد اتجاهاتها وخلاصاتها، فهو من أباد كيانات وغير خرائط، وقلب معادلات كونية، فقد شهدنا في عهد ريغان اختراع فكرة حرب النجوم، التي أدت مع أمور غيرها إلى إفلاس القطب الكوني الآخر، وإيصاله إلى حد الانهيار والتلاشي. وشهدنا في عهد كارتر أهم اختراق تاريخي في الكون، هو اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل.. وشهدنا في عهد كلينتون حرب البلقان الحاسمة التي غيرت الخريطة كما لو أن كياناتها كانت قطع ليغو جرى تفكيكها وتركيبها من جديد.. وشهدنا في عهد بوش الابن تدمير العراق واحتلال أفغانستان. وإذا كان ما شهدناه خلال الثلث الأخير من القرن الماضي هو التأكيد العملي على أن أميركا ملكت القرار والقدرة على تنفيذه، بصرف النظر عن خطأه أو صوابه، فقد جاء الوقت الذي نرى فيه أميركا ورئيسها يحتلان عين العاصفة، وهي بالمناسبة عاصفة أميركية يتضافر فيها الداخلي مع الخارجي، وتبدو خلاصاتها الأولية أزمة داخلية غير مسبوقة في التاريخ إلا لماما مع تقلص نفوذ خارجي غير مسبوق أيضا.
في غفلة من الزمن، قفز شاب بالغ الذكاء والدهاء يحمل اسما غير مألوف على مستوى القمة الأميركية «باراك حسين أوباما»، أسمر البشرة مجعد الشعر، ليحتل موقع الرئيس في البيت الأبيض، أي رئيس العالم المسمى بالحر، ولقد قبل الساسة الأميركيون الفكرة مع قدر كبير من التمويه، وإظهار المرونة فتجنبوا ببراعة منقطعة النظير الإشارة إلى الاسم ولون البشرة، مركزين على أمر آخر.. هو النجاح والفشل. فكان أن بدأت فصول حرب ضارية ضد توجهات الرجل وقراراته، لم تقتصر على الخصوم التقليديين من الجمهوريين داخل الكونغرس، ولم تتوقف عند حد ظل مألوفا في أمر الصراع بين الحزبين الكبيرين، بل تطور الأمر ليبلغ حدودا أبعد..
في الشرق الأوسط، حيث إسرائيل والمصالح الكبرى لأميركا وحلفائها، طرح الرجل شعارات جريئة، أهمها المصالحة بين أميركا والإسلام، وفرض حل للصراع المزمن وعنوانه الصراع العربي الإسرائيلي، ومفتاحه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كانت رؤيته الأخلاقية والثقافية للقضايا الدولية المعقدة أقل فاعلية من رؤية وقدرات خصوم الفكرة، وكان أن فشل الرجل، وقام بعملية نقد ذاتي قلما قام بمثلها رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم، وانزوى بعيدا عن الشرق الأوسط وهمومه المستحيلة الحل، مفوضا وزير خارجيته بالحركة تحت شعار «لعل وعسى».
وفي المسألة الشرق أوسطية كذلك، سحب قوات من العراق، ووعد بإكمال انسحاب من أفغانستان، وأنجز قتل أسامة بن لادن كمقدم حساب للانتخابات التالية، ولم ينتبه الشاب الذكي إلى أنه راكم رسائل ضعف في ممارسة القوة قرأها كثيرون وبنوا سياسات وبرامج على أساسها، إذ لم تكن روسيا في وارد التخلي عن نفوذها الدولي ولا الصين كذلك، وبين جدل وأخذ ورد في أمر سياسته الخارجية، كان التدخل الجزئي من وراء الستارة الأطلسية في ليبيا، ثم التدخل الاستعراضي المرتبك في مصر، ولقد جرى ابتلاع ذلك كله، بل وتفهمه كما لو أنه دهاء مستتر برداء عقلانية مستجدة، إلى أن دخل العهد السوري، المتداخل مع الوضع الإيراني، فكان التحدي الأكبر على صعيد السياسة الخارجية الأميركية وبكل المقاييس، لم يفز أوباما في هذا التحدي، فكان أن خلق قطبا كونيا آخر ينازعه القرار والنفوذ وربما أشياء أخرى في الحاضر والمستقبل. كانت رسائل الضعف وممارسة القوة قد فعلت فعلها عند الأصدقاء والحلفاء أكثر مما فعلت على مستوى الخصوم أو المنافسين، فزرع الشك في نفوسهم، وشعروا جميعا بأنهم في تحالفهم الأميركي يستندون إلى جدار غير آمن وغير مضمون، فدخلت الأزمة السورية حالة من الانفتاح على المجهول، ووقف العالم كله أمامها كما لو أنها حرب كونية بالوساطة، لا قِبل لأي قوة على حسمها ووضع نقطة النهاية لها.
ومع أن ذلك لم يمس جوهر القوة الأميركية، بل أصاب كيفية استخدامها وفاعليتها الحاسمة، إلا أن تفريغ هذا الضعف في الداخل الأميركي عبر أزمة الموازنة الراهنة، وتداخل هذا البعد الخطير من الأزمة الأميركية الشاملة مع مستجدات الوضع الإيراني وقلق الحلفاء من إدارة العلاقة مع إيران وبرنامجها النووي وتطلعاتها الإقليمية.. كرس الرئيس الأميركي كرجل فرض عليه أن يقف تحت تقاطع نيران رهيب، فلا هو بصانع للعواصف كما كان أسلافه، ولا هو بقادر على رد العواصف التي يصنعها غيره من داخل أميركا ومن داخل حلفائها على مستوى العالم كله. إن باراك حسين أوباما الذي يأمل محبوه أن يتجاوز العاصفة الداخلية والخارجية بأقل قدر من الخسائر على صعيد الهيبة والنفوذ، فرض على نفسه نهجا يخالف النمطية الأميركية المعتادة في العمل كقوة عظمى، إذ نقل هذا الكيان العملاق من الموقع الهجومي الدائم والمقرر والحاسم إلى موقع آخر ربما يكون دفاعيا أو تهاونيا أو مغاليا في المرونة، إلا أنه بالتأكيد ليس الموقع الذي احتله أسلافه من الرؤساء، حيث كان الأضعف من بينهم حين يقرر أمرا يتحقق قد يكون في هذه القراءة بعض استنتاجات وخلاصات غير دقيقة، إلا أن ما لا جدال فيه حقيقة أن أميركا لم تعد هي تلك التي عرفناها.. إنها تتغير، ولنرَ كيف ستستقر الأمور بعد العاصفة الراهنة.