عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

«داعش» والمفارقة الديمقراطية

الرؤية الاستراتيجية للحرب ضد «داعش» قدمها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إلى مجلس العموم الخميس الماضي لتصبح حديث المؤسسة السياسية البريطانية وزميلاتها في العالم الغربي والأوساط الاجتماعية ووسائل التواصل الاجتماعي سوشيال ميديا والصحافة بكل أنواعها.
مناقشة ساعة ونصف كانت الثالثة لديفيد كاميرون هذا الأسبوع.
وقف إلى جانب وزير الدفاع مايكل فالون لتقديم التصريح الوزاري ministerial statement أول الأسبوع لتقديم ميزانية جديدة لوزارة الدفاع. كاميرون استغل الوقت ليقدم الميزانية بنفسه في إطار التهديد الجديد الذي يواجه بريطاني من الإرهاب، وبالتحديد إرهاب «داعش» و«أنصار بيت المقدس» و«القاعدة» وأخواتها (كلها خرجت من عباءة جماعة الإخوان أصل تشويه الإسلام واختراع آيديولوجية توظيف الإرهاب السيد قطبية في العصر الحديث). وتناول المستر كاميرون هجمات باريس، وكيف أن لندن كان يمكن أن تتعرض للإرهاب نفسه، مركزًا على تدريب «داعش» لهذه الخلايا النائمة، وكيف أن أعضاءها تدربوا في سوريا في مناطق تحت سيطرة «داعش».
الأربعاء يوم الاستجواب الأسبوعي لرئيس الوزراء في مجلس العموم، وقد تناول عددًا من الأسئلة (بما فيها أسئلة من نواب الحكومة مما أثار تساؤلات الصحافيين عما إذا كان المسؤولون عن الانضباط الحزبي قد تعمدوا زرع الأسئلة، أي نظموا مع النواب لتوجيهها إلى رئيس الوزراء، وهو تقليد معتاد لتقديم وجهة نظر الحكومة فيما يبدو للناظر كأنه إجابة عن سؤال بريء من النائب).
المراقبون والمعلقون (خصوصًا الصحافيين مثيري المتاعب) قالوا بخبث شديد إن كاميرون يجس النبض، وإن الأمر بروفة لتقديم مشروع استراتيجية مكافحة الإرهاب واحتواء «داعش» في سوريا والعراق، للنواب، والغرض، كما كرر القول مرارًا، هو حماية رعايا الملكة من الإرهاب.
المرة الثالثة كانت الخميس. وسواء اتفق القراء الأعزاء مع أسباب رئيس الحكومة البريطانية أم لا، فما يهمنا هنا هي التركيبة المعقدة للمؤسسة السياسية الديمقراطية في بريطانيا، وتسلسل صناعة القرار، ومدى حرية الحركة المسموح بها لرئيس حكومة منتخبة من أغلبية الشعب كي يتخذ قرارًا.
في بريطانيا هناك تقاليد برلمانية تمارس لأجيال طويلة. وهناك تقليد قديم بأن الواجب الأول للحكومة هو حماية رعايا التاج. هذا المبدأ يمنح رئيس الحكومة المنتخبة صلاحية اتخاذ قرار لحظي لحماية المواطنين قبل الرجوع للبرلمان، ثم شرحه في تصريح وزاري لمجلس العموم في أقرب فرصة. المثال الأقرب ما حدث في شهر أغسطس (آب) الصيف الماضي أثناء عطلة البرلمان، عندما أمر رئيس الوزراء بإرسال الطائرات من دون طيار (الدبور) إلى الأجواء السورية لتصيد اثنين من الإرهابيين بريطانيي الجنسية كانا يخططان لعمليات إرهابية في بلدهما بريطانيا. رئيس الوزراء تصرف في حدود صلاحياته الدستورية لحماية رعايا التاج الذين انتخبوا حكومته لتنفيذ مهام في مقدمتها حمايتهم. ومع ذلك تعرض رئيس الحكومة لمساءلات دقيقة وشديدة في أولى جلسات البرلمان بعد العطلة حول هذا القرار.
وقد يتساءل البعض: ولماذا هذه التعقيدات؟ سلاح الجو الملكي يقوم بغارات يومية على مواقع «داعش» الإرهابي في العراق، و«داعش» لا يعترف بالحدود بين البلدان التي يعتبرها «إسلامية»، فماذا يمنع الطائرات البريطانية من ضرب الإرهابيين في عاصمتهم المزعومة، الرقة داخل سوريا؟ الفارق هو حكم القانون.
الحكومة الشرعية المنتخبة في العراق دعت طيران التحالف العالمي لمساعدتها في ضرب «داعش» من الأجواء العراقية، وهو أمر مشروع سواء في القانون الدولي أو القانون البريطاني الذي يحكم السياسة البريطانية.
وللتذكير خسرت وزارة المالية البريطانية مؤخرا، قضية رفعها ثلاثة من الممرضين المتخصصين في رعاية المعاقين، بعد أن اقتطعت لوائح الميزانية الجديدة التي أصدرتها الحكومة 60 جنيهًا أسبوعيًا من منحة مخصصة لهم لرعاية معاقين، وقد حكم القضاء لصالحهم تحت قانون مساواة المعاقين بالأصحاء. والدرس أنه حتى حكومة منتخبة بالأغلبية، لا يمكنها إصدار لوائح مخالفة للقانون، والحكم النهائي للقانون، والقضاء مؤسسة دولة مقدسة مستقلة تمامًا عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وهنا ما تخشاه الحكومة في مسألة اتخاذ قرار بالتدخل بالطيران الحربي في سوريا حتى لو وافق البرلمان، وقررت هيئة ما مقاضاة الحكومة، واتضح أن القرار يخرق القانون البريطاني أو الدولي.
وبصرف النظر عن موقف الرأي العام العالمي وأغلبية قراء هذه الصحيفة من نظام الأسد في سوريا، وانتهاكه حقوق الإنسان، فإن سوريا ممثلة بأنها دولة (بصرف النظر عن الحكومة أو لونها) في الأمم المتحدة. وبلا طلب رسمي من سوريا بالتدخل العسكري يبدو مشروع رئيس الوزراء كاميرون بضربات عسكرية ضد «داعش» على الأراضي السورية، عاريًا بلا غطاء قانوني للتدخل. ومن المفارقات أن البلد الوحيد الذي له غطاء قانوني للتدخل هو روسيا بخطاب رسمي من دمشق. مشكلة أساسية حاول الزعيم البريطاني معالجتها بفتوى قانونية هي أن المنطقة التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» الإرهابي، خارج سيطرة أي حكومة معترف بها دوليًا، كما أن «داعش» أعلن نفسه «دولة خلافة» أي احتل أراضي عراقية وسورية بلا مشروعية. قرار مجلس الأمن الدولي «2249» يحث جميع الدول الأعضاء على اتخاذ إجراءات لإنهاء وجود الكيان الإرهابي «داعش».
مجموعة من المسوغات القانونية قدمها الزعيم البريطاني إلى مجلس العموم، بجانب الحجة القانونية الدائمة، المادة 51 من القانون الدولي وهي حق الدفاع عن النفس، ويمكن للحكومة العراقية الاستناد إليه لتطلب من الحكومة البريطانية توسيع ضرباتها الجوية ضد «داعش» في سوريا بسبب تهديد الإرهاب لها، وضربات استباقية بسبب تهديدات واضحة من «داعش» بعمليات إرهابية في بريطانيا مثل عمليات باريس.
حجج تبدو مقنعة للقانونيين، لكن صناعة القرار تخضع لحسابات أخرى، مثل قدرة الحكومة على إقناع نواب البرلمان بالتصويت للقرار. للحكومة أغلبية ستة مقاعد، لكن أكثر من 16 نائبًا من نواب الحكومة يعارضون قرار ضرب «داعش» في سوريا (كان العدد 33 قبل جلسة الخميس) أي إن الحكومة في حاجة لـ16 صوتًا من صفوف المعارضة.
زعيم حزب العمال جيرمي كوربن أرسل خطابًا لجميع النواب، مؤكدًا رفضه التصويت على مشروع الحكومة في الحرب ضد «داعش» في أي حال من الأحوال، محدثًا انقسامًا بين نواب العمال، بشكل يصعب معه تقدير كم منهم سيصوت مع الحكومة.
رئيس الوزراء كاميرون لن يغامر بالتقدم للبرلمان بمشروع قرار قبل أن يضمن قبوله، فرفضه سيكون انتصارًا دعائيًا لـ«داعش» وهزيمة قد تكلف رئيس الوزراء منصبه.
المفارقة الساخرة أن أعرق وانضج الديمقراطيات وسيادة القانون فيها، تحولت إلى طوق نجاة لأكثر المنظمات الإرهابية الفاشية رفضًا للديمقراطية البرلمانية.