توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

في الطريق إلى المجتمع المدني

إصدار مجلس الوزراء السعودي لنظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية، هو بالتأكيد أهم أخبار الشهر المنصرم. يشكل النظام الإطار القانوني الضروري لقيام منظمات المجتمع المدني وتنظيم عملها، سيما علاقتها مع الأجهزة الرسمية المحلية. إنه خبر جدير بأن يبعث فينا التفاؤل بين سيل من الأخبار الموجعة حولنا.
من السابق لأوانه الحكم على تفاصيل النظام الجديد. لكن ما يثير اهتمامي هو المبدأ الذي صدر على ضوئه؛ أي المشاركة الشعبية في إدارة المجتمع وتطويره، التي قال د. ماجد القصبي، وزير الشؤون الاجتماعية، إنها جزء من رؤية رسمية ترمي للتحول من الرعوية إلى التنموية.
شكل هذا النظام موضع إجماع في المجتمع السعودي. خلال العقد الماضي تحدث عشرات من المثقفين والشخصيات العامة وكبار المسؤولين الحكوميين في الدعوة إليه وبيان ضرورته. على أي حال، فقد أمسى كل ذلك خلفنا. إقرار النظام يستدعي الحديث عن المرحلة التالية. ويهمني هنا توضيح نقطة محددة تخص العلاقة بين الجمعيات الأهلية التي ستقوم في ظله، والإدارة الحكومية. تكمن أهمية المسألة في حقيقة أن النظام الجديد يقيم منظومة تختلف فلسفيًا ووظيفيًا عن الأجهزة الرسمية، لكنها تشاركها العمل في الفضاء العام.
تستمد المنظمة الحكومية قوتها ومبررات وجودها من ارتباطها بالطبقات العليا في الهرم الإداري. بينما يعتمد عمل المنظمات الأهلية وقوتها وخياراتها على إرادة أعضائها ودعم الجمهور؛ أي قاعدة الهرم الاجتماعي. هناك بالتأكيد اختلاف بين الطرفين في طريقة التفكير والأولويات والإمكانات، الأمر الذي يقود بشكل طبيعي إلى تزاحم في الإرادات، ورأينا هذا التزاحم في تجربة المجالس البلدية والصحافة، فضلاً عن المنظمات الأهلية شبه التقليدية، مثل الجمعيات الخيرية والنوادي الرياضية، وفي تجربة المنظمات المختلطة (الرسمية/ الأهلية) مثل النوادي الأدبية والجمعية الوطنية لحقوق الإنسان.
يرجع التزاحم المدعى إلى عاملين: عامل ثقافي يشترك فيه الجميع؛ الجمهور وموظفو الدولة، وعامل يخص التشريعات القانونية التي تنظم عمل الإدارات الرسمية.
إشارة وزير الشؤون الاجتماعية إلى «التحول من الرعوية إلى التنموية» ترتبط بالعامل الأول. تشكل «الرعوية» محور الثقافة السياسية السائدة في المجتمعات العربية كافة، وفحواها أن الدولة مكلفة بحياة الناس كلها. هذه الرؤية تستدعي - في الجانب المقابل - تدخلاً غير محدود لأجهزة الدولة في حياة الناس وخياراتهم.
وعلى العكس، فإن فلسفة المجتمع المدني تعتبر المجتمع الأهلي، كأفراد وكمجموع، مسؤولين تمامًا عن حياتهم وخياراتهم. وهي رؤية تستدعي في المقابل انصراف الدولة إلى واجباتها الرئيسية؛ أي إدارة البلد ككل، وتقليص تدخلها في حياة الأفراد إلى أدنى حد ممكن. وبحسب تعبير أحد الفلاسفة، فإن قيام الدولة الحديثة كان إيذانًا بتحول وظيفتها الجوهرية من مفهوم السلطة على أشخاص الناس، إلى مفهوم إدارة المصالح العامة وما يشترك فيه الناس.
تحقيق هذه الرؤية يستدعي مراجعة القوانين واللوائح التنفيذية التي تنطوي على مضمون تدخلي، بما يؤدي إلى تقليص هذا المضمون إلى أدنى الحدود الممكنة، كما نحتاج إلى «إعادة تثقيف» الموظفين المعنيين بتطبيق تلك اللوائح والقوانين؛ أي تنويرهم بالتحول الذي نسعى إليه، وصولاً إلى التطبيق الكامل لفحوى الحديث الشريف: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
تصنف الفلسفة السياسية المجتمع المدني كواحد من أبرز أركان الدولة الحديثة. ونحمد الله أن بلادنا قد انتهت من الخطوة الأولى؛ أي وضع الإطار القانوني، ويحدونا أمل بأن تأتي الخطوات التالية بما يلبي هذا الأمل ويعززه.