وليام بيرنز أول دبلوماسي أميركي محترف يتولى إدارة وكالة الاستخبارات المركزية

أول دبلوماسي أميركي محترف يتولى إدارة وكالة الاستخبارات المركزية

حرب غزة تفرض خيارات معقدة على أميركا وتشكيك في نجاح جهود بيرنز في حل الصراع
حرب غزة تفرض خيارات معقدة على أميركا وتشكيك في نجاح جهود بيرنز في حل الصراع
TT

وليام بيرنز أول دبلوماسي أميركي محترف يتولى إدارة وكالة الاستخبارات المركزية

حرب غزة تفرض خيارات معقدة على أميركا وتشكيك في نجاح جهود بيرنز في حل الصراع
حرب غزة تفرض خيارات معقدة على أميركا وتشكيك في نجاح جهود بيرنز في حل الصراع

بينما تُراوح مؤشرات «بورصة» المفاوضات الجارية لوضع حدّ للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة - وعلى الفلسطينيين عموماً - صعوداً وهبوطاً بعد هجوم حركة «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، برز الدور اللافت الذي يلعبه ويليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «السي آي إيه» في تلك المفاوضات، وزياراته وجولاته المكوكية مع الأطراف المعنية في هذا الصراع، لكن على الرغم من أن المفاوضات إبّان «الحروب» الإسرائيلية الفلسطينية السابقة غالباً ما كانت تدار من قِبل قادة أجهزة الاستخبارات، فإن مشاركة بيرنز الحالية تُعد مختلفة عن مشاركات أسلافه الذين كانت وظيفتهم جمع المعلومات الاستخبارية بشكل منفصل عن السياسة والنفوذ السياسي، أما بيرنز فهو أول مسؤول في «السي آي إيه» جاء من أرفع المواقع الدبلوماسية الأميركية المحترفة، ذلك أن مسيرته شهدت خوضه أدواراً رئيسة في المفاوضات التي أُجريت بدايات القرن الحالي في إطار ما سمي «خريطة الطريق» لإنشاء «الدولة الفلسطينية المستقلة» عام 2002، خلال عهد الرئيس الأسبق جورج بوش «الابن».

يقول البعض في واشنطن إن الدبلوماسيين الأميركيين غالباً ما يتمتعون بخلفية استخباراتية «ضرورية»، بمعزل عن انتماءاتهم السياسية والحزبية، ويُجبرهم موقعهم الدبلوماسي على التزام «الحيادية» في تمثيل دولتهم.

لعل هذا الأمر أكثر ما ينطبق على ويليام بيرنز، الذي يحفل تاريخ خدمته الخارجية بتجربة واسعة النطاق، سواءً مع منطقة الشرق الأوسط أم مع روسيا. وعندما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي تربطه به علاقة طويلة، يوم 11 يناير (كانون الثاني) 2021، أنه يعتزم ترشيحه لمنصب مدير «السي آي إيه» (وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية)، قال إن بيرنز يشاركه اعتقاده «بأن الاستخبارات يجب أن تكون غير سياسية، وأن محترفي الاستخبارات المتفانين الذين يخدمون أمتنا، يستحقون امتناننا واحترامنا».

وبالفعل، لقي ترشيح بيرنز الاستحسان في جلسة تأكيد تعيينه بمجلس الشيوخ، في 24 فبراير (شباط) 2021، بعد خضوعه للتدقيق في لجنة الاستخبارات، ليحصل على الموافقة بإجماع الحزبين الديمقراطي والجمهوري، يوم 18 مارس (آذار)، وتأديته اليمين الدستورية مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية في اليوم التالي. وفي يوليو (تموز) 2023، رقّى بايدن بيرنز في إدارته، في إجراء رمزي إلى حد كبير.

والواقع أن مهارات الرجل، وقدراته الدبلوماسية، وآراءه السياسية، فضلاً عن التحولات التي طرأت عليها، لتتكيف مع مصالح بلاده الاستراتيجية، كانت حاضرة لتقييم أهليته لشَغل منصب رئاسة واحدة من أكبر أجهزة الاستخبارات في العالم. ثم إنه يُعدّ أحد أكثر الدبلوماسيين الأميركيين تفاعلاً وانخراطاً مع مختلف الإدارات الأميركية، الجمهورية والديمقراطية.

بطاقة شخصية

وُلد ويليام جوزيف بيرنز لعائلة عسكرية في قاعدة فورت ليبرتي «فورت براغ سابقاً» بولاية نورث كارولينا، عام 1956. أمه بيغي كاسادي، وأبوه الجنرال وليام فرنسيس بيرنز، الذي كان لواءً في الجيش الأميركي وشغل منصب نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الحد من الأسلحة، ومكتب الشؤون السياسية والعسكرية، ومدير وكالة الحد من الأسلحة ونزع السلاح الأميركية عامي 1988 و1989، في إدارة الرئيس رونالد ريغان، بالإضافة إلى خدمته بصفته أول مبعوث أميركي خاص لمفاوضات نزع السلاح النووي مع دول الاتحاد السوفياتي السابق.

التحق ويليام بيرنز بمدرسة ترينيتي الثانوية في كامب هيل، بولاية بنسلفانيا، حيث كان طالباً متفوقاً، وتخرّج عام 1973، ثم درس التاريخ في جامعة لا سال (الكاثوليكية الخاصة)، وتخرّج فيها بشهادة البكالوريوس بمرتبة الشرف عام 1978، ومن ثم حصل على منحة مارشال للدراسات العليا في كلية سانت جون بجامعة أوكسفورد العريقة ببريطانيا، وهناك نال درجة الماجستير في الفلسفة، ودرجة علمية في العلاقات الدولية، ثم في عام 1985 حصل من أوكسفورد على دكتوراه في الفلسفة عن أطروحته بعنوان «المساعدات الاقتصادية والسياسة الأميركية تجاه مصر 1955 - 1981».

أما بالنسبة لحياته الأسرية فإنه التقى زوجته المستقبلية، الدبلوماسية السابقة ليزا كارتي، عام 1982، عندما كانا يجلسان بجوار بعضهما البعض، خلال تدريبهما على الخدمة في وزارة الخارجية. وتعمل زوجته الآن سفيرة لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، ولديه ابنتان.

مسيرة الصعود من وزارة الخارجية

بيرنز الذي يتقن اللغات الروسية والعربية والفرنسية، دخل وزارة الخارجية في عام 1982، وتقاعد منها عام 2014، بعد مسيرة دبلوماسية استمرت 33 سنة، وبعدها أصبح رئيساً لـ«مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، وهي أقدم مؤسسة فكرية للشؤون الدولية في الولايات المتحدة، حتى استقالته منها عام 2021.

في عام 1994، أُدرج اسم ويليام بيرنز في قائمة مجلة «تايم» التي تضم «50 من القادة الأميركيين الواعدين تحت سن الأربعين»، وفي قائمتها التي تضم «100 من القادة العالميين الشباب». وفي عام 2013، أطلقت عليه مجلة «فورين بوليسي» لقب «دبلوماسي العام».

ثم حصل، عام 2014، على «جائزة رجل الدولة المتميز» من «رابطة مكافحة التشهير» المناصرة لإسرائيل، و«جائزة الإنجاز مدى الحياة» من «معهد الشرق الأوسط» في واشنطن (2014)، و«جائزة أننبرغ للتميز الدبلوماسي» من الأكاديمية الأميركية للدبلوماسية (2015).

وبعدها، في عام 2008 رشحه الرئيس الأسبق جورج بوش «الابن»، وأكد الترشيح مجلس الشيوخ، بصفة «سفير محترف»؛ وهي رتبة تقديرية رفيعة وترقية نادرة في الخدمة الخارجية الأميركية.

ثم إنه كان ثاني دبلوماسي محترف في تاريخ الولايات المتحدة يصبح نائب وزير الخارجية، ذلك أنه قبل توليه منصب نائب وزير الخارجية، عمل بيرنز بين 2008 و2011 وكيلاً لوزير الخارجية للشؤون السياسية، وقبلها كان سفيراً لدى روسيا بين 2005 و2008، ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى بين 2001 و2005، ويومذاك خاض المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين على أثر اندلاع «الانتفاضات» في مناطق السلطة الفلسطينية، خلال رئاسة ياسر عرفات - التي كانت الإدارة الأميركية تتعامل معه في حينه - وحكم رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون.

أيضاً كان بيرنز من عام 1998 إلى عام 2001، سفيراً لدى الأردن، وشملت مناصبه الأخرى في الخدمة الخارجية: السكرتير التنفيذي لوزارة الخارجية والمساعد الخاص لوزيري الخارجية السابقين وارين كريستوفر ومادلين أولبرايت، وأيضاً كان مستشار الشؤون السياسية في سفارة الولايات المتحدة بموسكو، والقائم بأعمال المدير والنائب الرئيس لمدير تخطيط السياسات بوزارة الخارجية، والمساعد الخاص للرئيس الأميركي والمدير الأول لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي.

شخصية أساسية في إدارة بايدن

تقول صحيفة «النيويورك تايمز» إن بيرنز سعى، منذ تعيينه في منصبه، «إلى طرد أشباح الإخفاقات الاستخباراتية، بعد تقديراتها من أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل»، وهو يُعد الشخصية الرئيسة في تعزيز دعم إدارة بايدن لأوكرانيا، بعدما جمعت وكالته المعلومات الاستخباراتية بشأن خطط روسيا لغزوها، وأنه اكتسب نفوذاً يتجاوز معظم قادة الاستخبارات السابقين، و«كان تأثير فترة ولايته بعد سنتين من تعيينه كاسحاً بقدر ما كان دقيقاً»، بعد الإحباطات التي تعرضت لها «السي آي إيه»، وتهميشها خلال سنوات حكم دونالد ترمب، الذي قال علناً إنه يميل إلى تصديق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكثر من تصديق الوكالة.

وحقاً، استعادت «السي آي إيه» هيبتها مع بيرنز الذي كان هو، وليس وزير الخارجية أنتوني بلينكن، الذي أرسله بايدن لمقابلة بوتين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، وقام بيرنز أيضاً بنحو 30 رحلة إلى الخارج، خلال السنتين اللتين أمضاهما مديراً للوكالة، بينها لقاءات شملت مناقشة سياسات واشنطن مع القادة الأجانب. وكذلك لكونه عضواً في «الدائرة الداخلية» لبايدن، كثيراً ما طلب منه الحضور المنتظم للإحاطة اليومية من مكتب مدير الاستخبارات الوطنية حول الأمن القومي.

تعقيدات المنطقة تفرض نفسها

عن مستجدّات الشرق الأوسط رأى بيرنز أن «الأزمة التي عجّلت بها المذبحة التي ارتكبتها (حماس) في إسرائيل، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، هي بمثابة تذكير مؤلم بتعقيد الخيارات، التي لا تزال المنطقة تفرضها على الولايات المتحدة». وقال إن «مفتاح أمن إسرائيل والمنطقة هو التعامل مع إيران» التي «يبدو أن (نظامها) مستعدّ للقتال حتى آخِر وكيل إقليمي له، كل ذلك مع توسيع برنامجه النووي، وتمكين العدوان الروسي» على أوكرانيا.

وحول إيران خاصة، يُذكر أن بيرنز قاد، عام 2013، مع جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي الحالي، «القناة التفاوضية الثنائية السرّية» مع إيران، والتي أدت إلى الاتفاق المؤقت بين إيران و«مجموعة 5 +1»، ومن ثم «الاتفاق النووي الإيراني». وورد أن بيرنز كان «في مقعد السائق» لفريق التفاوض الأميركي بشأن الاتفاق المؤقت، وكان قد التقى سراً مسؤولين إيرانيين منذ عام 2008، عندما انتدبه الرئيس جورج بوش «الابن» للمهمة. وفي أبريل (نيسان) 2013، أشادت به مقالة نُشرت في مجلة «ذي أتلانتيك»، وعدّته «السلاح الدبلوماسي السرّي» الذي وُجّه ضد «بعض تحديات السياسة الخارجية الشائكة التي تواجهها الولايات المتحدة».

لكن حيال ملف فلسطين وإسرائيل، ومع فشل محاولات بيرنز «التوفيق» بين الطرفين في عام 2002، تُطرح، اليوم، تساؤلات عمّا إذا كانت آفاق المفاوضات الجارية لوقف الحرب تتجه إلى الفشل نفسه تحت سقف أدنى بكثير لما هو متاح للفلسطينيين، وخصوصاً في ظل موقف أميركي يعدّه البعض «تواطؤاً» ضد مستقبل القضية الفلسطينية.

حملة بايدن الانتخابية

وبالفعل، قال مسؤولون أميركيون كبار أخيراً إن عملية رفح «لا تزال محدودة حتى الآن»، مستبعدين أن تكون إسرائيل تجاوزت «الخط الأحمر» الذي وضعه بايدن حول غزو برّي للمدينة نفسها قد يكون «نقطة انهيار» للعلاقات الأميركية الإسرائيلية.لكن هذا كلام يشكك بمضمونه عدد من المراقبين؛ لأنه، على الرغم من إعلان بايدن «وقفاً مؤقتاً» لشحنة أسلحة مهمة إلى إسرائيل، أكد بايدن، ووزير دفاعه لويد أوستن، الأربعاء، «الحرص على مواصلة القيام بما هو ضروري لضمان أن لدى إسرائيل الوسائل للدفاع عن نفسها». والواضح أن معظم التوتر الحالي بين الطرفين يعود إلى المخاوف على حظوظ إعادة انتخاب بايدن، في حال لم يتحقق بسرعة التوصل لـ«هدنة ما»، بعدما دخل السباق الرئاسي أشهره الأخيرة.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».