ماذا يمكن أن يتغيّر بعد انعقاد «لقاء قرطاج» الثلاثي

وسط خلافات حول ليبيا... والعلاقات مع واشنطن وباريس وروما

من لقاء قرطاج الثلاثي (إ ب أ)
من لقاء قرطاج الثلاثي (إ ب أ)
TT

ماذا يمكن أن يتغيّر بعد انعقاد «لقاء قرطاج» الثلاثي

من لقاء قرطاج الثلاثي (إ ب أ)
من لقاء قرطاج الثلاثي (إ ب أ)

نُظّم أخيراً في قصر الرئاسة التونسية بقرطاج لقاء مغاربي مصغّر ضمّ الرئيس التونسي قيس سعيّد، والرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفّي، بمشاركة مسؤولين كبار عن قطاعات الأمن والاقتصاد والشؤون الخارجية. ولقد تباينت ردود الفعل على هذا اللقاء ونتائجه داخل البلدان المشاركة فيه، وكذلك في الرباط ونواكشوط وفي عدد من العواصم الأوروبية والأفريقية والغربية المعنية بالأوضاع في المغرب العربي. وأولت أطراف محلية وإقليمية ودولية اهتماماً لافتاً بالتقارب بين تونس والجزائر عشية تنظيم البلدين انتخابات رئاسية جديدة. وفي حين رأت أطراف عديدة عقد هذا اللقاء المصغّر «تمهيداً لتفعيل مسار الاتحاد المغاربي» المجمّد منذ التسعينات، على خلفية توتر العلاقات بين الجزائر والمغرب، اتهم سياسيون في الرباط القيادة الجزائرية بمحاولة «تأسيس اتحاد مغاربي بديل» يُقصي المغرب، ويبدأ بالدول الثلاث التي شاركت في لقاء تونس، وينفتح لاحقاً على موريتانيا فقط. لكن مصادر حكومية في الدول الثلاث ردّت بالقول إن لقاء قرطاج بحث أساساً التنسيق بين البلدان الثلاثة حول التحديات الاقتصادية والأمنية المشتركة وملفات الهجرة غير النظامية والمياه وتسوية الأزمة الليبية والعلاقات مع الدول الأوروبية.

أبرز سؤال مطروح اليوم، بعد اللقاء التشاوري الثلاثي، التونسي - الجزائري - الليبي، هو عمّا يمكن أن يغيّره هذا اللقاء الذي جمع الرئيسين قيس سعيد وعبد المجيد تبّون، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفّي. وبالأخص، ما إذا كان لقاء قرطاج هذا سيُسهم في إحداث آليات جديدة للشراكة وتسوية أزمات المنطقة، أم تزداد الأوضاع تعقيداً. ولكن، بحسب تصريحات وزيري الخارجية التونسي نبيل عمار والجزائري أحمد عطّاف بعد اللقاء، فإن مبادرته الثلاثية «ليست موجهة ضد أي دولة بما في ذلك الشقيقة المغرب».

ترفيع التنسيق أمني

في تونس، نوّهت تصريحات أعضاء في الحكومة ووسائل الإعلام بالبيان الختامي الذي صدر عن اللقاء، وعدّته «مساهمة في تطوير الشراكة الاقتصادية، وتفعيل القرارات الجماعية القديمة حول معالجة معضلات الأمن والهجرة غير النظامية والتنمية والمياه في المناطق الحدودية، ورفض التدخل الأجنبي في شؤون المنطقة».

أيضاً أُعلن في تونس وطرابلس عن «مشاورات أمنية» تونسية - ليبية - جزائرية إضافية شملت ملفات المعابر البرّية، بينها بالخصوص معبر رأس جدير الحدودي بين تونس وليبيا الذي كان أغلق قبل نحو شهرين؛ بسبب الاضطرابات الأمنية وصراعات النفوذ على «البوابات والمعابر» بين «لوبيات» مالية وأمنية في غرب ليبيا، والسلطات العسكرية والسياسية في طرابلس.

وفي هذا السياق، لفت الأكاديمي البشير الجويني، وهو دبلوماسي تونسي سابق في ليبيا، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى محادثة بين وزيري داخلية كل من تونس وليبيا، كمال الفقي وعماد الطرابلسي، أوصت بالتعجيل بفتح معبر رأس جدير «في أقرب وقت» بحكم أهميته «الاستراتيجية»، وتكفّله بتنقل ما لا يقل عن نصف مليون مسافر شهرياً، و6 ملايين مسافر سنوياً، معظمهم من الليبيين والتونسيين والجزائريين.

إلا أن قرار «فتح المعبر» لم يقع تفعيله فوراً، رغم المباحثات التي أجريت في لقاءٍ بتونس بين الرئيس قيس سعيّد ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي وأعضاء وفدي البلدين. في المقابل، تزايدت الحركة نسبياً في المعبر الثاني الرابط بين ليبيا وتونس، معبر «الذهيبة - وزّان»، وهو معبر في منطقة صحراوية يحتاج سكان شمال ليبيا ومنطقة العاصمة طرابلس والمسافرون التونسيون إلى قطع مئات الكيلومترات الإضافية لبلوغه. ومعلوم أيضاً أن هناك معبر «الدبداب» الليبي - الجزائري الصحراوي، لكنه مفتوح لنقل السلع فقط.

وفي الوقت ذاته، نشرت وسائل إعلام في البلدان الثلاثة أن من بين النتائج الإيجابية لإحداث «آليات التشاور الثلاثية» التونسية - الجزائرية - الليبية، ترفيع التنسيق في قطاعات مكافحة الإرهاب والتهريب والهجرة غير النظامية، و«اعتراض قوافل المهاجرين القادمين من بلدان جنوب الصحراء» الذين تزايد عددهم بعد تدهور الأوضاع الأمنية والإنسانية في السودان، وعدد من دول الساحل والصحراء.

تخوّفات

على صعيد متّصل، أعربت أوساط سياسية وأكاديمية مغاربية عن «تخوّفات» من إنشاء «آلية ثلاثية مغاربية للتشاور» لا تشمل الرباط ونواكشوط؛ إذ نشر بعض الشخصيات، وأيضاً وسائل إعلام مغربية وعربية، مقالات وبرامج تتّهم القيادة الجزائرية بـ«محاولة إقصاء المغرب» الذي يستضيف المقر الدائم للأمانة العامة للاتحاد المغاربي منذ تأسيسه في «قمة مراكش» خلال فبراير (شباط) 1989.

معبر راس جدير(صورة ارشيفية من وزارة داخلية الدبيبة)

كذلك، صدرت انتقادات للقاء قرطاج الثلاثي من شخصيات ليبية مقرّبة من قائد الجيش في شرق البلاد المشير خليفة حفتر، ومن رئيس حكومة الشرق أسامة حمّاد (في بنغازي) ورئيس حكومة الغرب عبد الحميد الدبيبة (في طرابلس). واعتبر جُلّ هذه الانتقادات أن المنفي، رئيس «المجلس الرئاسي الليبي»، له صلاحيات «محدودة»، مقارنة برئيسي الحكومة ومجلس النواب المؤقت في المنظومة السياسية الليبية الحالية.

لكن المنفي تفاعل مع هذه الانتقادات على طريقته، فأرسل مستشاره سامي المنفي مبعوثاً إلى العاهل المغربي محمد السادس والرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، ونقل إليهما رسالتين خطيتين لتوضيح سياق اللقاء الثلاثي. وبالفعل، عقد سامي المنفي في الرباط مؤتمراً صحافياً مع وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، حاول من خلاله طمأنة «المتخوّفين» من تشكيل «مؤسسات وآلية إقليمية ثلاثية تجمع الجزائر وتونس وليبيا»، قد يكون لها دور في معالجة الأزمة الليبية وأزمات دول الساحل والصحراء الأمنية والاقتصادية، وأيضاً تلعب دوراً في المباحثات مع أوروبا والولايات المتحدة والعواصم العالمية المعنية بملفات الأمن والهجرة والطاقة والمعادن الثمينة، ومستقبل دول منطقة جنوب البحر الأبيض المتوسط سياسياً وأمنياً وجيو - استراتيجياً.

التنسيق مع الجامعة العربية

من جانبه، صرح السفير أحمد بن مصطفى، المدير العام السابق للشؤون العربية في الخارجية التونسية، في حوار مع «الشرق الأوسط»، بأنه لا يتوقع «تغييرات كبيرة ميدانياً» أو «انفراجة في الأزمات الداخلية لتونس والدول المغاربية»، و«لا في علاقات تونس بكل من ليبيا والجزائر». وفسّر موقفه «غير المتفائل» بكون المغرب «لا يدعم» هذا المسار الجزائري - التونسي - الليبي لاعتباره إياه محاولة لإقصاء الرباط. ومن ثم، أشار السفير إلى اتهامات في المغرب للجزائر بأنها تسعى إلى «الاستفادة» من الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية في تونس وليبيا، من أجل «تغيير التوازنات السياسية في المنطقة» لمصلحتها.

كذلك، رأى بن مصطفى أن «من مصلحة الدبلوماسية التونسية التزام قدر أكبر من الحياد في النزاعات الإقليمية»، وتطوير حضورها في مؤتمرات مؤسسات العمل العربي المشترك ومنظمات جامعة الدول العربية والتعاون الإسلامي والاتحاد الأفريقي وفي الأمم المتحدة، والتأثير في مسارات الصراع العربي – الإسرائيلي، والفلسطيني - الإسرائيلي «عوض البحث عن آليات بديلة أصغر».

ومن ثم لاحظ أن «الحضور العربي والإسلامي والأفريقي لتونس تراجع، بل أصبح ضعيفاً، وهذا ما يجب تداركه عبر مزيد من التطوير للشراكات والتعاون مع كل الدول العربية مشرقاً ومغرباً دون إقصاء».

حل وسط... و«لعبة محاور»

من جهة أخرى، قال عبد الله العبيدي، الدبلوماسي التونسي السابق في ألمانيا وفي المنطقة المغاربية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «الدبلوماسية التونسية مدعوة للعب دور وسط، وأن تدعم دوماً الحلول الوسطى، وأن تضمن توازناً في علاقاتها مع كل من المغرب والجزائر».

وأردف العبيدي أن الدبلوماسية التونسية تميّزت في عهدي الرئيسين الأسبقين الحبيب بورقيبة (1956 - 1987) وزين العابدين بن علي (1987 - 2011) بـ«تحقيق توازن» في علاقاتها بالرباط والجزائر، بما في ذلك في المراحل التي اندلعت فيها نزاعات مسلحة بينهما حول الحدود أو حول الصحراء. وعبّر عن موقف مماثل وزير الخارجية الأسبق السفير أحمد ونيس، الذي دعم مبدأ التنسيق الثنائي والثلاثي بين البلدان المغاربية، لكنه أعلن بوضوح أن الاتحاد المغاربي لا يُمكن أن يُقصي أي بلد عضو، وتحديداً المغرب الذي استضاف قمة التأسيس في 1989، كما أنه يستضيف الأمانة العامة للاتحاد منذ 35 سنة. ويتخوّف ونيس، في هذا السياق، من أن تدفع عواصم غربية دولاً في المنطقة نحو «صراعات ثانوية» تؤدي إلى اصطفاف مزيد من الدول العربية والإسلامية والأفريقية حول هذا المحور أو ذاك.

العبيدي يتخوّف، بدوره، من أن تزداد الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وملفات الهجرة في تونس وفي المنطقة المغاربية، تعقيداً، على الرغم من الدعوات للحوار ورفض التدخل الأجنبي الصادرة عن اللقاء الثلاثي. في حين لم يستبعد أحمد بن مصطفى «تعميق الأزمات الحالية»؛ بسبب «هشاشة الجبهة الداخلية في الدول المغاربية وضعف حكوماتها»، بل توقّع دخول تونس ودول المنطقة في مرحلة اللا استقرار في ضوء «استفحال» الأزمات في ليبيا، وتعمّق الخلافات بين الرباط والجزائر.

باريس وروما... وواشنطن وأنقرة

في هذه الأثناء، أشارت أوساط سياسية تونسية ومغاربية إلى تكثيف كل من واشنطن وباريس وروما وأنقرة تحركاتها ومبادراتها لـ«تسوية الأزمات» في ليبيا وتونس والدول المغاربية، وفي منطقة الساحل والصحراء.

وزاد نسق هذه التحركات عشية انعقاد لقاء قرطاج الثلاثي وبعده؛ إذ زارت جورجيا ميلوني، رئيسة الحكومة اليمينية الإيطالية، تونس للمرة الرابعة خلال سنة واحدة، يرافقها وفد يضم وزير الداخلية الإيطالي. وبعد ذلك بأيام، زار تونس وفد عسكري إيطالي برئاسة وزير الدفاع، ثم وفد برئاسة وزير الثقافة. وزارها أيضاً وزير خارجية الحكومة اليمينية في المجر، التي تلتقي مع حكومة ميلوني من حيث مواقفهما المتشددة مع المهاجرين الجدد، ومطالبة تونس وليبيا والجزائر بـ«تعاون أكبر» أمنياً في معالجة معضلة «الهجرة غير النظامية»، وترحيل المهاجرين الآتين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء.

وفي الوقت عينه، أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مكالمة هاتفية مع نظيره التونسي قيس سعيّد، شملت المحاور التي تطرق إليها البيان الختامي للقاء قرطاج الثلاثي. وفهم متابعون في تونس هذه المكالمة بأنها «رسالة سياسية» عن «التفاعل الفرنسي مع التقارب السريع بين تونس وكل من إيطاليا والولايات المتحدة والجزائر»، وذلك في مرحلة تزايد التنسيق الأميركي - التركي - الإيطالي - الجزائري في ليبيا، وفي كامل دول الاتحاد الأفريقي الذي يتولى رئاسته مجدداً الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني.

كل هذه المعطيات تؤكد أن مبادرة تنظيم لقاء قرطاج حرّكت كثيراً من المياه الراكدة إقليميا ودولياً، وهذا، بينما تتابع واشنطن تفعيل دورها في تونس وليبيا وفي كامل المنطقة عبر آليات عديدة، بينها «المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة». وتشمل هذه الأخيرة تدريبات «الأسد أفريقيا 4» التي نُظّمت قبل أيام في تونس والمغرب والسنغال وغانا، وشاركت فيها قوات تونسية مع نحو 7 آلاف عسكري من 20 دولة؛ أبرزها الولايات المتحدة والمملكة المغربية. أعربت أوساط مغاربية عن «تخوّفات» من إنشاء «آلية ثلاثية مغاربية للتشاور» لا تشمل الرباط ونواكشوط


مقالات ذات صلة

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب

حصاد الأسبوع 
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب

في إطار الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، يمكن ملاحظة وجود تصعيد تدريجي ومتبادل في الرسوم الجمركية بين البلدين. هذا التصعيد يعكس اتجاهات السياسة الاقتصادية التي تعتمدها الدولتان، حيث تتمثل الولايات المتحدة في دور المبادر في فرض الرسوم الجمركية، بينما تتبع الصين استراتيجية الردّ المتدرج. في البداية، بدأت الولايات المتحدة بزيادة الرسوم الجمركية بشكل حاد وسريع من 10% في فبراير (شباط) الماضي إلى 145% في 10 أبريل (نيسان) الجاري، وهو ما يعكس رغبة الإدارة الأميركية الحالية في ممارسة ضغط اقتصادي كبير على الصين. في المقابل، قامت الصين، في البداية، بالرد بنسب أقل (10% و15% جزئياً) غير أنها رفعت النسبة بشكل تدريجي حتى وصلت إلى 125% بحلول 11 أبريل، ما يبرز توجهاً أكثر حذراً من جانبها في التعامل مع التصعيد.

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ منهياً جولته الآسيوية الأخيرة وبجواره ملك كمبوديا نورودم سيهاميني في مطار العاصمة الكمبودية بنوم بنه (أ.ب)

دعوة للتعقُّل تجنباً لحرب بلا منتصر

تُشكّل العلاقات الصينية ـ الأميركية اليوم أكبر اختبار لقدرة العالم على التعايش في ظل التحولات الجذرية في موازين القوى. ولا أحد ينكر أن التنافس موجود.

حصاد الأسبوع رياك مشار

رياك مشار... سياسي مخضرم لعب دوراً حيوياً في تاريخ جنوب السودان

مجدداً يبرز اسم رياك مشار، السياسي المخضرم والمثير للجدل، وسط مخاوف من أن تدخل دولة جنوب السودان نفق حرب أهلية أخرى، قبل أن تتعافى من تداعيات سابقتها، التي انتهت عام 2018. مشار، الذي يشغل منصب نائب الرئيس، وُضع أخيراً تحت الإقامة الجبرية، ما يمثل أحدث منعطف في علاقته المضطربة مع رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت. وما يجدر ذكره أن مشار لعب دوراً بارزاً في تاريخ السودان منذ منتصف الثمانينات، ولطالما كان نشاطه في حروب جنوب السودان من أجل الاستقلال عن السودان مثيراً للجدل، وحمل الرجل ألقاباً عدة، بدت متعارضة في بعض الأحيان، من «زعيم تمرد» إلى «أمير حرب» إلى «رجل سلام».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع زمّور (آ ف ب)

إبعاد لوبن... هل تتحوّل المتاعب القضائية منفعةً سياسية؟

أثارت إدانة مارين لوبن، زعيمة رئيسة حزب «التجمّع الوطني» اليميني المتطرف، في قضية الوظائف الوهمية، اضطراباً كبيراً في المشهد السياسي الفرنسي بين مؤيد لقرار العدالة الفرنسية ومعارض لها. وأيضاً فتحت باب النقاش حول مستقبل أقوى قوى اليمين المتطرف وزعيمته التاريخية التي ستمنع - ما لم تتمكن من إلغائه بقرار قضائي جديد - من تقديم ترشّحها لأي منصب سياسي لمدة خمس سنوات؛ وهو ما يعني القضاء على طموحها في خلافة الرئيس إيمانويل ماكرون في 2027. أضف إلى ذلك أن هذا الإبعاد قد يعني أيضاً إضعاف هيمنة «آل لوبن»، الذين سيطروا على المناصب الريادية في ثاني أهم تشكيل سياسي فرنسي منذ أسسه جان ماري لوبن (والد مارين) عام 1972، والاحتمال الآخر هو أن تتحول المتاعب القضائية حجّة مثالية للعب دور «الشهيد السياسي» وحشد التأييد والفوز بالانتخابات. وللعلم، بيّنت دراسة أخيرة لاستطلاع الرأي من معهد «إيلاب» أن لوبن تبقى الأوفر حظاً في الفوز بالجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المقبلة.

حصاد الأسبوع ترمب وقائمة التعرفة الجمركية المفروضة على دول العالم (غيتي)

فوضى الأسواق تمهد لنظام عالمي ينهي حقبة منظمة التجارة «المعادية»

لا يمكن رد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب «المفاجئ» تأجيل فرض الرسوم الجمركية على غالبية الدول لمدة 90 يوماً، إلى نجاح مناشداتها فقط. ثم إنه لا يمكن اعتبار

إيلي يوسف (واشنطن)

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين