سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

صراع المتفوقين

سافر الصحافي الطبيب مصطفى محمود إلى الأماكن الصعبة بحثًا عن مواضيع لم يصل إليها سواه. من تلك الأماكن كان موطن قبائل الدينكا في السودان. وهم قوم طِوال القامات. عندما وصل إليهم، لم يكونوا قد خرجوا إلى المدنية بعد. وبعث من تلك الأماكن الغريبة برسائل هي من أجمل الآثار التي تركها لقرّائه. غير أنه فات الدكتور مصطفى، على ما يبدو، أن يطرح على مضيفيه في الغابة سؤالاً بسيطًا، وهو ما معنى كلمة «دينكا» التي أطلقوها على أنفسهم.
معناها، بكل بساطة، «الناس»، أي أن الناس الذين ليسوا من الدينكا ليسوا بأُناس. وهناك أيضًا شعوب «النُوير». وماذا تعني كلمة النُّوير؟ تعني كذلك «الناس الأصليون»، وعلى بعد آلاف الأميال من السودان في ثلوج ألاسكا وشمال شرقي سيبيريا، حيث يعيش شعب «اليوبيك»، وهي أيضًا تعني «الناس الحقيقيون». تلك هي في الواقع حقيقة البشر جميعًا، وليس فقط قبائل الصحارى الحارة أو الصحارى الجليدية. لقد قسّم البشر أنفسهم منذ البداية على أساس «نحن وهُم»، أي المتفوّقون والعاديون، أو بالأحرى، المتميزون والذين لا شيء يميزهم. أنا والآخر. وبالتالي، فالقاعدة هي أن يرفض البشر بعضهم بعضًا سواء كانوا في الأدغال، لم يخرجوا منها بعد، أو في المدن، حيث يحفرون الخنادق ويقيمون المتاريس، أو يجلسون على الأبراج وفي النوافذ العالية لكي يقتل بعضهم بعضًا، ويقنص بعضهم بعضًا مثل الطيور والطرائد. ولا يزال العالم، منذ قيامه إلى اليوم، يتحارب حتى الإبادة والمحو، لخلافٍ عرقي أو ديني أو مذهبي أو عقائدي. كان الاتحاد السوفياتي في ذروته يشكل في مساحته 8/1 (ثُمن) العالم، ومع ذلك كان يعمل من أجل المزيد. وضمت الولايات المتحدة الأراضي من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي، ومع ذلك ظلّت تعتبر أن أمنها الاستراتيجي قائم في فيتنام واللاوس وكمبوديا، ناهيك طبعًا بالشرق الأوسط، حيث منابع النفط الذي كانت تعتمد عليه في الماضي اعتمادًا كليًا.
تنقلب المنطقة العربية اليوم وتتقلب خارج حدودها المعروفة منذ مائة عام للسبب نفسه: «نحن وهُم». وكالعادة، لا نعرف من يحدّد الأنا ومن يحدد الآخر. فهذه هي روسيا تُعلن، بكل بساطة، أنها تحارب في سوريا من أجل «مصالحها الحيوية». وهذه أميركا في المقلب الآخر تُعلن، بكل بساطة أيضًا، أنها لن تتحرك في النزاعات حِرصًا على مصالحها الحيوية. وهذه إيران ترسل كبار ضبّاطها يُقتلون في سوريا حِرصًا على مصالحها الحيوية. الغريب أن لا أحد من المتقاتلين في أجواء سوريا وأراضيها ومياهها يتحدّث، ولو من رفع العتب، عن مصالح سوريا الحيوية وعن حياة شعبها وعن سيادة أراضيها وأجوائها. الأنا والآخر في أبشع المظاهر.