خالد السويلم
TT

نحو سياسة مالية سعودية أكثر قوة وفاعلية

في ظل التغيرات الكبيرة التي تشهدها أسواق النفط، واحتمالية بقاء أسعار البترول قريبة من المستويات الحالية لفترات زمنية طويلة، فإن الأهمية قصوى لمراجعة السياسات المالية التي كانت متبعة من قبل وزارة المالية السعودية في مواجهة الحالات السابقة لانخفاض أسعار البترول.
يرجع ذلك لكون التغيرات الحالية في أسواق النفط تختلف اختلافًا جوهريًا عما كانت عليه الدورات السابقة في نزول أسعار البترول ثم العودة للارتفاع مرة أخرى. الهبوط الحالي لأسعار البترول يتعلق بتغيرات في العرض وليس الطلب فقط. والعوامل التي أدت إلى زيادة كميات العرض ليست مرتبطة بأمور فنية قصيرة الأجل؛ ولكنها تتعلق بتغيرات هيكلية طويلة الأمد في أسواق الطاقة بشكل عام.
وكانت وزارة المالية السعودية قد أعلنت مع بداية الهبوط في أسعار البترول وقت إعلان الميزانية العامة للدولة السنة الماضية، أن السياسة المتبعة في الوزارة هي «معاكسة الدورات الاقتصادية» بحيث لا تصرف الوزارة الدخل كاملاً عندما تحدث ارتفاعات كبيرة في أسعار البترول؛ وتبدأ في السحب من الاحتياطيات والاقتراض بالريال عندما تنخفض أسعار البترول؛ ليأتي بعد ذلك ارتفاعات أخرى كبيرة في أسعار البترول وترتفع الاحتياطيات مرة أخرى، وهكذا.. وهي طريقة غير محسوبة المخاطر «Ad hoc»، لا سيما في الوضع الحالي لأسواق النفط. ويمكن أن ينتج عن تلك الطريقة مخاطر كبيرة على مالية الدولة والأمن الاقتصادي للسعودية باستنزاف احتياطيات الدولة من العملة الصعبة في وقت يصعب فيه تعويض تلك الاحتياطيات.
السحب من احتياطيات العملة الصعبة أو الدولار لا يتم عادة بشكل مباشر، وإنما عن طريق الإنفاق الحكومي بالريال أو الاقتراض المحلي بالريال ثم الصرف. فأي مبالغ تصرف بالريال ينتج عنها سحب ما يعادلها تقريبًا بالدولار من الاحتياطيات لدى مؤسسة النقد.
ولهذا، فإن الاقتراض المحلي بالريال لا يساعد على المحافظة على احتياطيات الدولة من العملة الصعبة، بل العكس هو الصحيح؛ أي أنه ينتج عن ذلك سحب تلقائي مماثل من الاحتياطيات بالدولار عندما تصرف تلك المبالغ، إضافة إلى تسجيل دين على الدولة بالريال.
وبالمثل، فإن رفع الرسوم على أي من الخدمات والنشاطات الاقتصادية بالسعودية ينبغي أن ينظر له من ناحية الفاعلية في استخدام الموارد وليس من أجل زيادة إيرادات الدولة أو تقليل عجز الميزانية؛ لأن تلك الإيرادات بالريال، عندما يتم صرفها في مجمل الإنفاق الحكومي، ينتج عن ذلك سحب من الاحتياطيات بالدولار. ولهذا، فإن التوازن الحقيقي في ميزانية الدولة الذي يحافظ على احتياطيات العملة الصعبة، وهي العمود الفقري لاقتصاد السعودية، يتطلب أن يكون الإنفاق الحكومي مساويًا في معظم الأحيان لإيرادات الدولة من العملة الصعبة (البترول والاستثمارات الخارجية والصادرات الأخرى). وقد يتطلب ذلك من وقت لآخر تحقيق فائض في الإيرادات العامة للدولة (مجموع الإيرادات المحلية بالريال والخارجية بالدولار).
يرجع السبب في هذه العلاقة الوثيقة (1:1) بين ما يصرف بالريال وما ينتج عنه من سحوبات على الدولار (سواء كان الصرف بالريال من حساب جاري وزارة المالية أو المبالغ المقترضة أو أي إيرادات محلية أخرى) إلى عدم تنوع الاقتصاد واعتماده على الاستيراد. فإذا كان دخل البترول أكثر من مصروفات الدولة ترتفع الاحتياطيات. وإذا زادت المصروفات بالريال على إيرادات الدولة من العملة الصعبة تتراجع الاحتياطيات. وتقتصر حاليًا إيرادات الدولة من العملة الصعبة إلى درجة كبيرة على دخل البترول. ومن هنا، تأتي أهمية الصندوق السيادي والاستثمارات الخارجية للدولة كمصدر آخر للعملة الصعبة موازيًا لإيرادات البترول.
ومع اقتراب صدور الميزانية العامة للدولة، فإن التحديات الأساسية التي تواجه السياسة المالية السعودية تكمن في أهمية تبني استراتيجية طويلة لمواجهة انخفاض دخل البترول، لا سيما فيما يتعلق بالاستفادة من الاحتياطيات الحالية في بناء مصدر آخر لدخل الدولة من العملة الصعبة وتقويته مستقبلاً ليكون بمثابة الحجر الأساس نحو سياسة مالية أكثر قوة وفاعلية.
تصبح تلك الضوابط والإصلاحات في هذه السنة بالذات أكثر أهمية وإلحاحًا، وذلك للإشارات الإيجابية التي يمكن أن تتحقق في السوق المحلية ولدى المستثمر الأجنبي ومؤسسات التصنيف الائتماني، بما يعزز النظرة المستقبلية للاقتصاد السعودي ويؤكد الإمكانات الكبيرة التي تمتلكها السعودية.