وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

الطائفة المنسية في لبنان

دعوة معظم الأحزاب اللبنانية إلى تبني قانون انتخابي جديد يضمن تمثيلاً أفضل لكل شرائح مجتمعهم التعددي، مؤشر كافٍ على أن إصلاح نظامهم السياسي يبدأ بإقرار قانون انتخاب عصري.. ولكن التجاذبات الطائفية، الحافز والطابع، التي رافقت الدعوة إلى انعقاد جلسة تشريعية للبرلمان اللبناني لوضع قانون انتخاب جديد توحي بأن معظم أقطاب الساحة السياسية الراهنة في لبنان لم يتجاوزوا، بعد، عقدة الذهنية الطائفية «الوطنية»، ليخرجوا بقانون انتخاب مختلف كثيرًا عن القانون الحالي.
عقدة الدولة اللبنانية أن معظم مكوناتها يقر، ضمنًا، بأنها دولة شبه فاشلة، إن لم تكن فاشلة بالكامل. مع ذلك لا يجاهر أحد منهم بضرورة إصلاحها بشكل جذري، مخافة أن يطيح الإصلاح بقاعدة التمثيل المذهبي التي قامت عليها زعامته، و«بفضلها» نمت.
وقد لا يكون من المبالغة القول بأن حاجة اللبنانيين إلى «ملجأ جماعي» شبه آمن وسط النزاعات السياسية - المذهبية التي تعصف حاليًا بالشرق الأوسط، تحولت إلى الدافع «الوطني» الأبرز للمحافظة على ما تبقى من عملانية دولتهم.
ولكن من الإنصاف الافتراض، في دولة علة وجودها العامل الطائفي ومصدر ضعفها العامل الطائفي، أن أي قانون انتخابي يتبناه مشترعوها يكون مغايرًا لواقعها الراهن لن يكتمل طابعه التمثيلي دون مراعاة المصالح المذهبية للأقليات الدينية في لبنان، خصوصًا في مرحلة يطغى فيها على المنطقة بأكملها مناخ مشحون طائفيًا ومفتوح على كل الاحتمالات.
مناخ المنطقة، على سلبيته بل خطورته، يفترض أن يكون، بحد ذاته، حافزًا سياسيًا لتحرر اللبنانيين من ذهنية التمثيل الطائفي في قوانينهم الانتخابية، ولو بمقاربة تدريجية قد تتيح لهم الاضطلاع بدور ريادي في الترويج للمجتمعات المتسامحة، دينيًا وآيديولوجيًا، علها تصح سياسيًا تسمية لبنان الرومانسية بـ«سويسرا الشرق».
ارتباط موقع كثير من سياسيي لبنان بنظام «المحاصصة» الطائفي يجعل تجاوز معادلة التمثيل الطائفي بالمطلق صعبًا في الوقت الحاضر، ولكن ذلك لا يبرر الارتهان الكامل إلى نظام طائفي أثبتت تجربته المعيشة أنه عامل رئيس في تعثر وضع لبنان السياسي وحتى الاقتصادي. والمشكلة أن لبنان يعيش، على هذا الصعيد، حلقة مفرغة، فالإصلاح يفترض وجود إصلاحيين حقيقيين داخل الطبقة النافذة من سياسييه، بينما معظم أقطابها تصح فيهم ملاحظة الناصري للمحرضين على رجم مريم المجدلية: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بأول حجر».
والسؤال الكبير هو: كيف يمكن للبنانيين كسر حلقة الإصلاح المفرغة دون الإخلال باستقرار نظامهم والتعايش الهش لطوائفه؟
قد تكون البداية المعقولة، والمقبولة في مناخ لبنان السياسي، في تبني المجتمع المدني مبادرة «إقناع» المشترع اللبناني بالخروج، تدريجيًا، عن إطار التمثيل المذهبي المغلق، والمطالبة بقانون انتخابي يفتح ولو كوة صغيرة على رياح القرن الحادي والعشرين... وذلك بمقاربتين متلازمتين:
- العودة إلى بند نص عليه اتفاق الطائف وبقي دون تنفيذ، أي إنشاء مجلس شيوخ على قاعدة التمثيل المذهبي المتساوي بين المذاهب اللبنانية، على أن يحصر فيه لاحقًا التمثيل الطائفي للبنانيين.
- وبموازاة ذلك إقرار قانون انتخابي يعتمد النسبية في تمثيل كل شرائح المجتمع اللبناني.. وبالنظر إلى تعذر «علمنة» هذا التمثيل بالكامل، فلا بأس من إتاحة فرصة استثنائية لتمثيل «الطائفة» المغلوبة على أمرها في لبنان - وربما المضطهدة أيضًا - أي طائفة العلمانيين اللاطائفيين، وذلك عبر تخصيص مقعد «مفتوح للجميع» في كل دائرة من دوائر لبنان الانتخابية يسمح بالترشح له من خارج القيد الطائفي.
ربما آن الأوان لأن يجرب اللبنانيون «تعايش» اللاطائفيين مع الطائفيين تحت سقف برلمان واحد علهم يتوصلون إلى تحويل لبنان من ساحة تلاقٍ جغرافي للأقليات المذهبية - والكل أقليات في لبنان - إلى دولة عاملة... وقابلة للاستمرار إلى ما بعد القرن الحادي والعشرين.