د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

ماذا يفعل المسلمون؟

في حديثه إلى شبكة «إن بي سي» التلفزيونية، أعلن المرشح للرئاسة الأميركية، دونالد ترامب، أنه لو قُدّر له الفوز بمقعد الرئاسة، سوف يكون واحدا من أعماله إنشاء قاعدة بيانات متعلقة بالمسلمين في الولايات المتحدة، يترتب عليها إعطاء كل منهم بطاقة هوية خاصة. لم يكن ذلك هو الاقتراح الوحيد «العنصري» الذي طرحه ترامب، فقد بدأ حملته الانتخابية بتصريحات مماثلة خاصة بالمهاجرين اللاتينيين، داعيا إلى بناء أسوار على الحدود الأميركية - المكسيكية، ولكن الواضح أن ما بدأ به المرشح آخذ في التحول الحاد الآن في اتجاه المسلمين، ولم يكن وحده الذي تصاعدت هذه الموجة معه، بل إن ذلك شمل كثيرين في اليمين الأميركي، منهم بن كارسون المرشح أيضا للرئاسة عن الحزب الجمهوري، وصاحب الشعبية الثانية، وفقا لاستطلاعات الرأي العام، بعد ترامب.
وللحق فإن الموجة العنصرية ضد المسلمين لم توجد فقط في الولايات المتحدة، لكنها امتدت إلى كل الدول الغربية تقريبا، بما فيها الدول المعروف عنها درجات عالية من التسامح، أسباب ذلك معروفة؛ أولها أن المسلمين في العالم يمثلون أعدادا غفيرة تبلغ 1.6 مليار نسمة تمثل 23.4 في المائة من سكان العالم، يوجد منهم 0.6 في المائة في الأميركتين، و6 في المائة في أوروبا، وثانيها أنه رغم التركز النسبي للمسلمين في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، فإنهم يمثلون جزءا لا يتجزأ من بلدان مهمة في العالم، مثل الهند وإندونيسيا وتركيا وعدد من الدول العربية ذات الأهمية النفطية والجيوسياسية، مثل هذا الانتشار يعطيهم نصيبا ملموسا في حركة التجارة العالمية، والنقل والمواصلات، وثالثها أن السمة العامة للمسلمين أن الدين الإسلامي مثّل دوما مكانة مهمة في ثقافة الإنسان المسلم، بل إن ديانته باتت جزءا مهما من هويته الوطنية، ورابعها أن الموجة الرئيسية للإرهاب والتطرف العقائدي في العالم خلال العقود الأربعة الأخيرة تبنتها منظمات وحركات، تصرح بوضوح بأنها تفعل ذلك باسم الدين الإسلامي، وخامسها أنه رغم أن الأغلبية الساحقة من ضحايا العنف الإرهابي في العالم كانت من المسلمين (نحو 95 في المائة)، فإن العمليات الإرهابية التي تمّت في الحواضر الغربية، وآخرها باريس، كانت موجعة لأسلوب الحياة في الغرب، وسادسها أن عمليات العنف التي ولدتها الحركات الإرهابية في العالم الإسلامي أدت إلى موجات من الهجرة إلى الشمال، لم يعرف الغرب كيف يتعامل معها ليس فقط سياسيا، وإنما ثقافيا أيضا.
هذه الأسباب مجتمعة، وهناك ما هو أكثر منها، تكثف الإعلان عنها في الغرب كله خلال الآونة الأخيرة، خاصة بعدما أسفر عنه «الربيع العربي» من حالات الفوضى والدول الفاشلة والحروب الأهلية وظهور دولة «داعش» المعبرة عن هذا التنظيم الذي له سمات وحشية وبربرية. ولم يكن هذا الإعلان الغربي ذو الطبيعة العنصرية شائعا إلى هذه الدرجة، حتى جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001، لتشكل علامة فارقة في علاقات الغرب بالمسلمين، وفي البداية كان ردّ المسلمين جاهزا، وهو أنه ينبغي التمييز بين جماعة من المسلمين الإرهابيين وبقية المسلمين من ناحية، والدين الإسلامي من ناحية أخرى. كذلك أشار المسلمون إلى التاريخ الذي يشير إلى أن التطرف والفاشية ألمّا بمجتمعات مسيحية ارتكبت أيضا كثيرا من الجرائم ضد الإنسانية. وأخيرا وليس آخرا أشار المسلمون إلى ما تلقوه من عنت واضطهاد في العصر الاستعماري، ويجد خلاصته في المسألة الفلسطينية في الماضي والغزو الأميركي للعراق في الحاضر.
مثل هذه الاستجابات لم تعد كافية للتعامل مع المعضلة الكبرى الراهنة التي يعيشها المسلمون في العالم، ليس فقط لأنهم أول الضحايا، ولكن أيضا لأنهم أول من يتعرض للّوم والظلم نتيجة هذه الأفعال. الفكر العربي السياسي لم يبذل حتى الآن جهدا كافيا للتعامل مع هذه المعضلة، بل إن المحافظين منا راحوا يغالون في حديث المؤامرات، أما التقدميون فكانت مغالاتهم في تبني «العلمانية» للخروج من المأزق الحالي. كلا الاتجاهين لم يكن مفيدا، فالأول لم يحل إشكالية أن الإرهابيين يدعون العمل تحت راية الإسلام، فيما الآخرون لا يمكنهم الحفاظ على التماسك القومي والهوية الذاتية للدول العربية من دون أن يكون الإسلام حاضرا بشكل أو بآخر، وإلا كان هناك شقاق وانشقاق يضاف إلى ما هو ذائع بين النِّحل والأعراق.
الدول العربية التي حافظت على تماسكها في مواجهة فوضى «الربيع العربي» عليها واجب خاص في هذه المرحلة على الصعيد الفكري والثقافي ليس لإرضاء الغرب، وإنما للحفاظ على الذات والهوية والإسلام.
لقد جرى كثير من الحديث عن «تجديد الفكر الديني»، بل كان هناك من أخذ ذلك خطوات إلى الأمام بالحديث عن «ثورة دينية»، وبالفعل فإن قدرا من الفعل والجهد سار في هذا الاتجاه، لكنه لا يزال حتى الآن أقل مما هو مطلوب، خاصة أن الأحداث التي يشرعها الغلاة والمتطرفون والإرهابيون لا تكف عن التوالي، وآخرها ما جرى في باريس.
وببساطة فإن العالم لن يترك بعضا منا يفسد عليه حياته، والحرية التي يحتاج إليها لبقاء ثقافته وحضارته، وربما المهم من ذلك كله اقتصاده. السوق العالمية ببساطة لا تتحمل غلق الأسواق والمطارات والتشدد في إجراءات الأمن، ومن ثم فإن علينا أن نأخذ بجدية كبيرة القرار الغربي بالقضاء على «داعش»، وربما كانت المشكلة الأعظم هي ما سوف يأتي بعد ذلك، حينما تنتشر العناصر «الداعشية» - الفكر والتنظيم - في العالم بأسلوبها الوحشي، فيكون الضحية ليس فقط المسلمون في الغرب، بل أيضا حيث يوجد الإسلام والمسلمون بأغلبية ساحقة.
الرسالة هنا أن ما هو سيئ الآن قد يعقبه ما هو أسوأ، ولذلك لا بد أن يكون الحل قادما من الدول الإسلامية ذاتها، فهي التي تقضي على «داعش»، وهي التي تقدم الإسلام إلى نفسها وإلى العالم بصورته الحقيقية النقية التي تحتوي حرية الاختيار، والأمان الأسرى، وكرامة الإنسان أيا كان؛ رجلا أو امرأة. البداية بدأت في مؤتمر فيينا الأول، وبعد هجمات باريس فإن الحلف الغربي - الشرقي الروسي آخذ في التبلور، لكي يكون قضاء على «داعش». الدول العربية والإسلامية جزء من الركب، ولها بعض من المشاركة، ولكن ما زال العبء الأكبر على الدول الغربية ومؤخرا روسيا. وبصراحة ما لم يكن دورنا في المعركة أكثر بروزا، فإن دورنا في المرحلة اللاحقة لإعادة تشكيل الأوضاع في مناطق أخرى، طبقا للنموذج الذي سيتم توليده في سوريا، سيكون محدودا. وبصراحة فإن علو الكعب في المرحلة القادمة سوف يكون لمن هو على استعداد كي يساهم في المعركة البرية على أرض سوريا والعراق. وهناك دعوة بالفعل من بعض السياسيين في الغرب لكي يقوم العرب والمسلمون بهذا الدور، ولكن هناك آخرون يريدون الانفراد بتشكيل الواقع الراهن، ومن ثم إعطاء الأدوار بعد ذلك حسب ما يرونه من مصالح في إعطاء دور لهذا وتهميش لذاك. ربما كل ذلك يحتاج إلى قدر كبير من الإرادة لكي نقرر مصيرنا بأنفسنا، ولا نترك الغرب أو الشرق أو «داعش» تقرره لنا!