فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

«لعبة الوطن» في «الحرب اللبنانية الباردة»

افترض اللبنانيون، المكتوون بنار المتلاعبين بهم من معظم رموز العمل السياسي الحزبي والحركي والتياري، أن «لعبة الوطن» المتفرعة من «لعبة الأمم» التي كثيرًا ما أفرزت مغامرات انقلابية في بعض دول العالم العربي أسست لما باتت تعيشه المنطقة لاحقًا، ستضع حدًا لها بعدما تهادن النظام الإيراني مع الإدارة الأميركية، ويطلب الذين يمعنون في الإساءة للوطن الصغير الاعتذار من اللبنانيين على ما ألحقوه بهم من أذى متلاعبيهم طوال عشر سنين ذاق المواطن اللبناني فيها مرّ العيش.
ولكن الضجيج الإيراني الذي يتواصل بعد إبرام الاتفاق النووي، وإطلاق الكثير من الكلام الذي يرمي منه قائلوه، ومن بينهم المرشد خامنئي وبعض رجال الدين الممسكين بمناصب دينية إرشادية وسياسية وكذلك رموز التشدد المتحالف مع جنرالات الحرس الثوري، التغطية على القبول الضمني والاضطراري بالاتفاق، جعل «لعبة الوطن» في الميدان اللبناني لا تتوقف، ويزداد تبعًا لذلك التعطيل على الصعيد الاقتصادي والتجاري والسياحي، حيث شبح الإفلاسات يخيم في محيط الأسواق الكبرى والصغرى على حد سواء، وعلى الصعيد الدستوري حيث خلا موقع الرئاسة الأولى (حصة الطائفة المارونية) في النظام من الشخص الذي عطَّل المعطِّلون، ومن بينهم أقطاب موارنة أبرزهم الجنرال ميشال عون المتحالف مع «حزب الله»، انتخابه وفْق الأصول، بحيث يجتمع مجلس النواب وبكامل أعضائه في الموعد المحدَّد دستوريًا، ويتم في الجلسة انتخاب رئيس للجمهورية، وبعد ذلك فليتواصل الصراع إلى أن يحل التعب على همة المتصارعين. لكن الغرض هو إلحاق المزيد من الضرر بمصالح الناس، والكثير من الإساءة إلى الأصول. ولو أن المؤسسة العسكرية في لبنان ليست على شاكلة المؤسسات المدنية من حيث المحاصصة الطوائفية لكان اللبنانيون المكتوون بنار المتلاعبين من معظم رموز العمل السياسي والحزبي والحركي رحبوا خير ترحيب بعملية انقلابية تنهي هذا الجنوح المؤذي نحو تعطيل البلد من جانب رموز قيادات سياسية وحزبية يؤدون أسوأ الأدوار في «لعبة الوطن» السيئة بامتياز.
وافترض اللبنانيون، المكتوون إياهم بعد مناشدة طيِّبة أتتهم من السعودية في الوقت الذي بلغ الضيق أشده، أن نشطاء «لعبة الوطن» سيتصرفون بما من شأنه تحقيق انفراج في الوضع الذي بلغ درجة عدم التحمُّل، خصوصًا مع حلول استحقاقات الأقساط والالتزامات المدرسية، تزامنًا مع أزمة النفايات المتكدسة في معظم شوارع العاصمة والبلدات، فضلاً عن أزمات كثيرة معيشية وأخلاقية وصحية تتنقل من سنة إلى أُخرى نتيجة أن نشطاء «لعبة الوطن» أو فلنقل التلاعب به لا يتوقفون عند حد. وهذه اللعبة أفرزت حالة أكثر سوءًا جديدة على الأحوال العامة في الأوطان، ذلك أن المتعارَف عليه هو أن الشعوب تكون عادة هي المشكلة في وطن من الأوطان، وتكون مؤسسة الحُكْم هي الحل. لكن الوضع في لبنان ونتيجة «لعبة الوطن» انتهى إلى العكس حيث إن المشكلة الحقيقية تكمن في مؤسسة الحُكْم، لأن كثرة من أعضاء البرلمان إما لا يحضرون إلى جلسة تم تحديدها لانتخاب الرئيس، وهو حضور واجب ينص عليه دستور البلاد، وهم إذا حضروا فإنهم للتعطيل وليس لأداء الواجب، وحيث قلة من الوزراء في الحكومة يتصرفون ضد ما يطلبه المواطن أو ينتظره منهم. ومثلما أنه لو كانت المؤسسة العسكرية عكس ما هي عليه، بمعنى أنها ليست انعكاسا لظاهرة المحاصصة الطوائفية، لوضعت حدًا لكل سياسي أو حزبي يمارس دورًا تعطيليًا مكلَّفًا به من خارج الحدود، فإن الحكومة لو أن تشكيلها يتم خارج ما هو حاصل، أي أن من يترأسها يكون واجبه خدماتيًا أكثر منه سياسيا ويكون هو مَن يختار فريق عمل ينفِّذ خريطة طريق إصلاحية وتطويرية، وليس كما الحال المألوف تنفيذ مضامين بيان وزاري في معظمها مطالب تعجيزية لأطراف تشارك في الحكومة... إنه لو كان أمر الحكومة على نحو ما نشير إليه فإن المواطن سيشعر أن الحكومة حكومته وليست حكومة طرف خفي، أو أنها بالمشاركين فيها وبما يمثِّلون لهذا الحزب أو التيار أو الحركة ليست حكومة تسيير أمور العباد وتنشيط الازدهار في البلاد.
كانت المناشدة السعودية عبارة عن كلمة من نوع ما قل ودل، وخشية على وطن عزيز من الدولة المناشِدة ألقاها سفير خادم الحرمين الشريفين لدى لبنان علي عواض عسيري مساء 17 سبتمبر (أيلول) الماضي في حفل شارك فيه بتلقائية وعفوية اللبنانيون بكافة أطيافهم وطوائفهم، الماروني إلى جانب السُني إلى جانب الشيعي إلى جانب الكاثوليكي إلى جانب السرياني إلى جانب الأرمني إلى جانب الدرزي إلى جانب الأرثوذكسي إلى سائر ممثلي المجتمع المدني. وكما أهل السياسة، كذلك أهل المؤسسة العسكرية والدينية بكافة المذاهب، جاءوا مقدِّرين نوايا السعودية وحرص الملك سلمان. ولقد سمع هؤلاء من الكلام أطيبه عن «لبنان الذي يدعو خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى المحافظة على وحدته وسيادته وتحصين أمنه واستقراره والعيش المشترَك بين أبنائه ليتمكن من اجتياز هذه المرحلة الاستثنائية التي تمر بها المنطقة ويستعيد دوره الطليعي وعصره الذهبي» و«لبنان النموذج النهضوي والنهضة العربية التي كان اللبنانيون روَّادها» و«لبنان الرقي والانفتاح» و«لبنان الكفاءة والحضارة» لينتهي السفير عسيري إلى القول: «هذه الصفات هي ثروة وغنى للبنان وهي أفضل ما تورِّثوه لأبنائكم وليس الخلافات السياسية والقلق على المستقبل والتفكير الدائم بالهجرة. أرجوكم أحبوا لبنان لا تدعوه يستغيث، تشبثوا به، تجذَّروا بأرضكم، جذِّروا أبناءكم وأحفادكم بها. تعالوا على الخلافات وعلِّموهم أنه في سبيل مصلحة البلاد تهون الصعاب...».
عندما كان السفير عسيري يقول هذا الكلام الطيِّب، الذي لم يسمعه اللبنانيون من أي سفير لدى بلدهم ماضيًا وحاضرًا، كانت بعض الأصوات التي لا تريد خيرًا للبنان تقول من الكلام اللامسؤول في حق السعودية ما من شأنه تعزيز «لعبة الوطن» والإبقاء على الصراع في لبنان حربًا باردة... ويصلي الأزمة المزيد من التعقيد والبغضاء... مع أن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «من كثُر كلامه كثُر خطؤه». والكلام هنا هو بعض ما نستمر سماعه في مسلسل «لعبة الوطن». هدى الله المكْثرين من الكلام إلى سواء السبيل ووقى لبنان من انتقال: «الحرب الباردة» الدائرة في ربوعه إلى حرب ساخنة.