إميل أمين
كاتب مصري
TT

اتهامات اعتباطية لإشعال الفتن

هل عدنا وعاد العالم من جديد إلى دائرة الحديث المتصلة بصراع الحضارات والمواجهات بين الأمم والشعوب، على أسس ومنطلقات ثقافية، ودينية في واقع الأمر؟
الشاهد أنه خُيّل للكثيرين أن أربعة عشر عامًا منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) قد قلصت كثيرًا من تناول هذه الإشكالية على مائدة البحث والدرس الفكري، غير أن ظهور «داعش»، واستمرار حضورها على الساحة الشرق أوسطية، بل وربما العالمية، قد أعاد الحديث عن المسألة بقوة مرة أخرى، وبخاصة في ظل عدة مشاهد معها يخشى المرء أن يكون الإسلام السمح المعتدل وكذلك عموم المسلمين السائرين على درب الإسلام الصحيح، هم ضحية تجدد هذا الطرح الممجوج.
من بين المواقف والتصريحات المثيرة، وبخاصة بعدما وصلت عمليات «داعش» إلى قلب أوروبا، وإقرار رئيس الحكومة الفرنسية، بأنه مع نهاية عام 2015 سيكون هناك نحو 10 آلاف أوروبي في صفوف «داعش»، الصوتان اللذان خرجا من إسرائيل أخيرًا، الأول لدرور إيدار عبر صحيفة «إسرائيل اليوم» بتاريخ 29 يونيو (حزيران) الماضي، تحت عنوان «أخيرًا نسمي الولد باسمه»، وعنده أنه رغم إنكار الغرب والولايات المتحدة، فإن ما يحدث اليوم هو صراع بين الحضارات «الإسلام والغرب»، والمقال يحمل شبهة واضحة للربط بين العنف والإرهاب وبين الإسلام والمسلمين.
الصوت الثاني خرج إلى العلن على لسان كوبي ميخائيل بتاريخ أوائل الشهر الماضي، عبر صحيفة «إسرائيل اليوم» عينها، تحت عنوان «هذه حرب حضارات»، حيث يدفع الكاتب الغرب دفعًا للإيمان والاعتقاد بأن ما هو جار على السطح ليس إلا صراع حضارات، وبالمعنى الأوسع للكلمة، حضارة الغرب ضد أولئك الذين يريدون محوها... إنها حرب وجودية سوف تسفك فيها دماء كثيرة، والتساؤل الواجب طرحه: لمصلحة من التعميم هنا؟ بل من هو المستفيد الأكبر من إشعال نيران الحروب والصراعات والصدامات المريرة حول العالم؟
لقد تركت تنبؤات صامويل هنتنغتون ولا شك أثرًا سيئًا على الجانبين، وها هو الحصاد المرير يتجلى هنا وهناك.
لكن الموضوعية والأمانة في حمل شرف الكلمة تقتضي أيضًا التوقف أمام بعض الأصوات الصادقة في الغرب التي تجابه الزيف الإعلامي، فقد جاءت
ردود النائب الفرنسي سيرج ليتشيمي حاسمة، عندما رد على أصوات ناقمة في الغرب قائلا: «إن هذا الحديث إهانة للإنسانية التي وفرت في الماضي أرضية خصبة لنمو الآيديولوجيات الأوروبية التي أنتجت مراكز الاعتقال النازية».
كما نشرت مجلة «أتلانتيك» الأميركية الشهيرة مقالاً أخيرا في هذا الإطار، أشارت فيه إلى أن الصراعات الداخلية هي القضية المهيمنة على الصراع الجيوسياسي، فقد قتل المتطرفون العديد من المسلمين أكثر من أعضاء أي جماعة أخرى.
يبقى المسلمون في واقع الأمر هم الضحية الكبرى للإرهاب وليس الغرب أو الغربيين، هذا ما يخبرنا به مؤشر الإرهاب العالمي الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام، ففي عام 2013 مات ما يقرب من 18 ألف شخص في جميع أنحاء العالم بسبب الهجمات الإرهابية، كان 82 في المائة من الضحايا في دول عربية وإسلامية هي العراق وأفغانستان وباكستان ونيجيريا وسوريا.
ولعل الأكثر إثارة في قراءة «أتلانتيك» التأكيد على أن الهجمات الإرهابية التي جرت داخل المجتمع الأميركي من قبل العنصريين وغيرهم من اليمينيين المتطرفين من غير المسلمين، قد أوقعت ضعف عدد الوفيات الناجمة عن الهجمات التي شنتها الحركات المتطرفة، وذلك وفقًا لدراسة حديثة أجرتها مؤسسة «نيوأميركا».
الكارثة الحقيقية في قراءة هنتنغتون أنها عما قريب لن تتوقف عند حدود الغرب والإسلام، بل ستسعي جاهدة - وهذا حاصل بالفعل - للتعاطي بنفس الفوقية والشوفينية الغربية مع الشرق الآسيوي، التحدي القطبي القادم، ولاحقًا سيحدث الأمر دون شك داخل المجتمعات الغربية ذاتها، وتجارب النازية والفاشية ليست بعيدة عن الأعين.
إن وضع تصنيف تراتبي للبشر، كما يؤكد الكاتب الفرنسي إيدوي بلينيل، وما أبدعوه من ثقافات وأديان وحضارات، من شأنه فتح طريق الفرز والانتقاء، يتم لاحقًا إقصاء من يعد أقل تقدمًا، وإعلاء من يفترض راقيًا وإنكار إنسانية من حكم عليه بالدونية.
نعم إن الإرهاب يهدد العالم، وفي حاجة سريعة لاستراتيجية عالمية لمحاربته، لكن الأمر يستدعي آليات واقعية، لا أن ينطلق استنادًا إلى تحيز لتصورات مسبقة...
ليحذر الجميع من عالم صراع الحضارات، وانغلاق الهويات والتحلل الوطني.. إنه الطريق إلى الصدمات الارتدادية الإنسانية المرعبة.